لا يُمكن بأي حالٍ، أن نُميز بين شِعر ما قبلَ الاستقلال وما بعدَه، إلا عبر البَحث والتقصي والوعي بالشروط الموضوعية والاجتماعية والتاريخية والثقافية، التي أدّت إلى نهضة أدبية في الشعر المغربي، تتسم بمظاهر اليقظة والتطور، وتسعى إلى الرفع من قيمة الشعر ورسم ملامحه الإبداعية والفنية، هذه الشروط السياقية التي أحاطت بالمنجز الشعري، جعلَت التجربتين الشعريتين الحديثة والمُعاصرة تشتركان في مُواضَعات شعرية وتقاليد إبداعية مشتركة، إِنْ على مستوى التوظيف اللغوي أو استثمار المكونين الإيقاعي والبلاغي أيضا. هذا التحول الذي مرّت به القصيدة المغربية على امتداد مراحلها ومحطاتها، هو نوعٌ من الوعي المستمر بالتجديد والتنويع الفني والجمالي عبر الاستمرارية والامتداد.
إنَّ
المسار الإبداعي الذي سلكته القصيدة المغربية الحديثة مع الشعراء؛ علال الفاسي،
محمد بن إبراهيم، عبدالملك البلغيثي، محمد القري، محمد المختار السوسي... إلخ، كان
له مسوغات خاصة تسعى إلى الاحتفاء بالذات الشاعرة والتعبير عن جملة من الأحداث
الجِسام والقضايا الاجتماعية والتاريخية والسياسية، التي كانت تمسُّ المجتمع
المغربي خاصة والعربي عامة، من دفاع عن الوطنية والقومية العربية، والدعوة إلى
الإصلاح الاجتماعي والديني، والتشبث بالقيم والمثل العليا، والحث على تعليم المرأة
وصون كرامتها وحقوقها. ولم تكن القصيدة المغربية في هذه المرحلة التاريخية نسخة
لنَظيرتها في المشرق كما يروج لذلك، وإنما كانت لها خصوصياتها الثقافية
والاجتماعية وهويتها الإبداعية، التي تنأى عن أي تبعية للمشرق، وإن كانت في صورتها
العامة تلتقي جزئيا مع صورة المدرسة الإحيائية، التي عملت على بعث الشعر العربي
القديم وإحيائه عبر محاكاة النماذج الشعرية الأولى.
ستظهر
فيما بعد كوكبة من الشعراء المغاربة، سيعملون على خلق تجديد في موضوعات القصيدة
وأساليبها الفنية والجمالية، وذلك بعد اطلاعهم على المذهب الرومانسي الذي يولي
للذات الشاعرة هامشا مُهما للتعبير عن دواخلها وتجاربها، من هؤلاء الشعراء
المغاربة الذين مثلوا هذا الاتجاه الوِجداني في الشعر، نذكر: مصطفى المعداوي
المجاطي، عبدالقادر حسن العاصمي، محمد الحلوي، عبدالمجيد بن جلون، علال بن الهاشمي
الفيلالي.
ستعرف
القصيدة المغربية خلال مرحلة ما بعد الاستقلال، بدءا من ستينيات القرن العشرين
تحولا جذريا في التصورات والرؤى والبنيات الفنية والتعبيرية على مستوى الشكل
والمضمون، امتدادا للتطور التدريجي الذي قطعته القصيدة الحديثة خلال مراحلها
الأولى، إذ تواصل التراكم الفني والجمالي في إطار عام يسمه الامتداد والاستمرارية،
تفاعلا مع الحركة الشعرية المعاصرة في العراق، التي انطلقت أواخر الأربعينيات مع
نازك الملائكة وبدر شاكر السياب. مَثَّلَ هذا النموذج الشعري الجديد في هذه
المرحلة التي تُمثل المعاصرة في الشعر المغربي كل من محمد الخمار الكنوني، أحمد
المعداوي المجاطي، محمد السرغيني، ومحمد الميموني.
استمرَّ
بحث الشعر المغربي المُعاصر عن إمكانات تعبيرية وفنية خلال مرحلة السبعينيات، حيث
سيظهر جيلٌ جديد من الشعراء بمحمولات فكرية وثقافية متباينة، مكنتهم من رسم معالم
فنية جديدة للقصيدة المغربية التفعيلية والتفنن في قوالب كتابتها، تعبيرا عن أسئلة
الذات وقضايا المجتمع، وانفتاحا على أشكال شعرية تعبيرية جديدة كالكتابة
الكاليغرافية باعتبارها اختيارا جماليا يحتفي بسيميائية الخط العربي والتوزيع
البصري للكلمات والأسطر على فضاء الصفحات وبياضها، وهو النَّفس التي سيأخذ مسارا
آخر خلال مرحلة الثمانينات، حيث سيقود الانفتاح على التيارات الشعرية الغربية؛
الفرنسية والإنجليزية والإسبانية، إلى الوعي بشكل تعبيري مُغاير يحتفي بقصيدة
النثر التي تحملُ بديلا إيقاعيا جديدا، يقوم على التشاكل الإيقاعي الداخلي
والموازنات الصوتية، والتكثيف في اللغة والرموز والقيم والصور، والاحتفاء بالذات
الشاعرة التي تعيش تشظيا وانشطارا في متاهات اليومي العابر.
هذا
الوعي بالتقنيات الفنية والتعبيرية الجديدة في القصيدة المُعاصرة في الثمانينيات،
سيعرف خلال مرحلة التسعينيات امتدادا واستمرارية، عبر الانفتاح على أنماط تعبيرية
جديدة كالتشكيل والسرد والمحكي اليومي، وغير ذلك من المقومات الفنية والجمالية
التي تعد رافدا جماليا وتعبيريا للحساسية الشعرية الجديدة، التي تميزت بالقدرة على
الجمع والتوليف بين الأنماط والحساسيات الزمنية المختلفة، إذ لم تقتصر على الأصوات
الشعرية الجديدة فحسب، بل استهوت الشعراء من أجيال زمنية وخيارات شعرية مختلفة
تماما.
إِنَّ وصفَ العديد من الدراسات والأبحاث للشعر المغربي المُعاصر بارتياده طريق المغايرة الإبداعية، موقف يَنِمّ عن وعيٍ بالجماليات الفنية الجديدة التي باتت تعرفها التجارب الشعرية الممثلة لهذا المنجز الإبداعي، والذي أصبح يعرف تحولا مطّردا في قواعده الفنية وأبنيتِه الجمالية. هذه المغايرة هي بحثٌ مُستمِر عن مواقف متباينة ورؤى فنية غير ثابتة، تشكل قوانينها من الداخل، وتستعير لنفسها إمكانات لا متناهية من أدوات التعبير والإبداع والاستمرارية، إلا أنها تشترط وعيا آخر غير يسير، يُسائِلُ زخمها الشعري المتواصل من جهة، والنظر في الدراسات المواكبة لها كشفا وتعريفا من جهة أخرى، سِيما تلك التي تبحث في العلاقة بين القصيدة المغربية الحديثة والمعاصرة، وما يمثل منها الراهن الشعري في الحساسية الشعرية الجديدة المرتبط أساسا بلحظته الزمنية والإبداعية.
إرسال تعليق