تحليل قصيدة (في الليل) للسياب – الثانية بكالوريا آداب وعلوم إنسانية
والصَمتُ عميقْ
وستائرُ شبّاكي مرخاةٌ..
ربَّ طَريقْ
يتنصَّتُ لي ، يترصَّدُ بي خلفَ الشبّاكِ ، وأثوابي
كمفزِّعِ بستانٍ ، سودُ
أعطاها البابُ الموصودُ
نَفَساً، ذرَّ بها حسّاً ، فَتَكادُ تفيقْ
من ذاك الموتِ ، وتهمسُ بي ، والصمتُ عميقْ :
لم يبقَ صديقْ
ليزورَكَ في الليلِ الكابي
والغرفةُ موصدَةُ البابِ.
ولبستُ ثيابيَ في الوهمِ
وسريتُ : ستلقاني أُمّي
في تلكَ المقبرةِ الثكلى ،
ستقولُ : أَتَقْتحمُ الليلا
من دونِ رفيقْ ؟
جوعانُ ؟ أتأكلُ من زادي :
خرّوبِ المقبرةِ الصّادي ؟
والماءُ ستنهلُهُ نَهلا
من صدرِ الأرضِ :
ألا ترمي
أثوابَكَ ؟ والبَسْ من كَفَني ،
لم يبلَ على مرِّ الزمنِ ؛
عزريل الحائكُ ، إذْ يبلى ،
يرفوهُ . تعالَ ونمْ عندي :
أعددتُ فراشاً في لَحدي
لكَ يا أغلى من أشواقي
للشمسِ ، لأمواهِ النهرِ
كَسْلى تجري ،
لهُتافِ الديكِ إذا دوّى في الآفاقِ
في يومِ الحشرِ .
سَآخِذُ دربي في الوهمِ
وأسيرُ فتلقاني أُمّي .
لندن.. 27-2-1963
قصيدة "في الليل" لبدر شاكر السياب
نشأت حركة تكسير البنية في ظل التحولات
الثقافية والاجتماعية، التي شملت مواجهة الاستعمار، وضياع فلسطين، وانبثاق حركات
التحرر الوطنية والقومية، وبداية انهيار أسس المجتمع التقليدي. وقد تميز هذا
الاتجاه على مستوى الوسائل الفنية بتجاوز شكل القصيدة العربية القديمة، فقد تم
استبدال نظام الشطرين بنظام السطر الشعري. إضافة إلى تحقيق الوحدة العضوية والموضوعية
للقصيدة باعتماد التفعيلة أساسا للوزن وتنويع القافية والروي واعتماد المقاطع. هذا
إلى جانب شحن اللغة وألفاظها بدلالات وأبعاد تخرج عن المألوف باستعمال الانزياح
والبعد الدلالي والتركيبي ، وتوظيف أدوات فنية جديدة تعتمد الرمز والأسطورة. علاوة
على اعتماد التدوير. أما على مستوى المحتوي فقد عمل الشعراء على التحرر من
الموضوعات والأغراض التقليدية من أجل التعبير عن تجارب، تلتحم فيها الذات
بالجماعة. ومثل هذا الاتجاه مجموعة من الشعراء منهم؛ نازك الملائكة، فدوى طوقان،
صلاح عبد الصبور، سميح القاسم، أحمد المجاطي، عبدالكريم الطبال وبدر شاكر السياب
صاحب القصيدة قيد التحليل.
فما مضمون
القصيدة العام؟ وما أهم الخصائص الفنية والأسلوبية والإيقاعية التي ميزت القصيدة؟
وإلى أي حَد تمكن الشاعر من تمثيل هذه الحركة شكلا ومضمونا؟
جاء عنوان القصيدة
"في الليل" من الناحية التركيبية مكونا من شبه جملة من الجار والمجرور،
أما من الناحية الدلالية "في" يدل على المكان، و"الليل" رمز
السكون والصمت والظلام والعزلة، فهو بذلك يوحي إلى تجربة الشاعر التي يتخللها
الخوف والمرض والحزن...
تؤكد بداية القصيدة على المنحنى
السلبي والمأساوي للنص( الغرفة موصدة، والصمت عميق)، حيث يخبرنا الشاعر بأن باب
الغرفة مغلق، مما يعبر عن المعاناة والوحدة. ومن خلال ذلك نفترض أن القصيدة ستعبر
عن معاناة الشاعر وحزنه في الليل بسبب الأرق الذي يعيشه بفعل المرض.
تعبر القصيدة عن التجربة
الذاتية للشاعر بدر شاكر السياب من خلال إبراز معاناته وحزنه نتيجة مرضه،
بحيث وصفت الغرفة الموصدة وحالة الحزن والعزلة والخوف التي يعيشها في هذه الغرفة
المظلمة. وزيارة الشاعر المفترضة الوهمية للعالم الآخر، وملاقاته لأمه التي تدعوه
إلى اللحاق بها. ما أدى به إلى اليأس والاستسلام للمصير الذي يعيشه وللموت
الذي يترصده.
ولإبراز هذه المضامين استعان الشاعر
بمعجم يتوزع إلى حقلين دلاليين: الأول يرتبط بالموت:(الصمت، موصدة، الصمت عميق،
يتنصت لي، سود، ذاك الموت، المقبرة الثكلى، خروب المقبرة، البس من كفني، لحدي...)
والثاني يدل على الحياة:(نفسا، سريت، سآخذ دربي، أسير...). نلاحظ هيمنة الحقل
الدال على الموت، وتجمع بين هذين الحقلين علاقة تنافر وتضاد، فالأول يمثل نهاية
مشوار الشاعر في الحياة حين يقرر اللحاق بأمه في القبر معتبرا الموت حلا مناسبا
لمعاناته مع المرض.
وإذا انتقلنا إلى الناحية الفنية
نجد أن الشاعر استند إلى بعض الصور الشعرية من البلاغة العربية القديمة اعتمادا
على التشبيه مثل (وأثوابي كمفزع بستان)، حيث شبه أثوابه بالفزاعة التي توضع في
البساتين لإخافة الطيور ، وكذلك الاستعارة كما في قوله (أعطاها الباب المرصود
نفسا) حيث حذف المشبه به(الروح) وأبقي على أحد لوازمه (النفس) على سبيل الاستعارة
المكنية، وكذلك الشأن في (من صدر الأرض) كاستعارة مكنية أيضا، وكلها صور تقوم
بوظيفة تعبيرية إبلاغية في النص. كما وظف السياب الانزياح (رب طريق يتنصت لي) فقد
اسند الشاعر فعل الانصات الى الطريق خارقا بذلك افق انتظار المتلقي, وخلق علاقات
جديدة بين الكلمات تخرق المألوف في سبكها.
أما الأساليب فيمكن أن نميز
فيها بين أسلوبين: خبري وإنشائي، فالسياب يستعمل الأول للإخبار عن معاناته وتصوير
واقعه المزري، والغربة التي يعيشها في المكان والزمان والموت (الغرفة موصدة الباب،
ستائر شباكي مرخاة..)، وهي كلها جمل خالية من التوكيد، لأن الشاعر يعتقد بخلو ذهن
المخاطب ليخبره بمعلومات جديدة. أما الأساليب الإنشائية فترتبط بانفعالات الشاعر،
غلب عليها الإنشاء الطلبي المتمثل في الاستفهام (من دون رفيق؟ خروب المقبرة
الصادي؟ ألا ترمي أثوابك؟) وهي استفهامات تفيد الالتماس واليأس.
وعلى المستوى الإيقاعي، فقد عمل
الشاعر من ناحية الإيقاع الخارجي على تجاوز نظام الشطرين الذي يتأسس على وحدة
البيت والقافية والروي، واستبداله بنظام الأسطر الذي يعتمد على التفعيلة. ويمكن
تبيان ذلك من خلال كتابة الأسطر الأولى كتابة عروضية، حيث اعتمد الشاعر تفعيلة
بحر، كما جعل تفاعيل الأسطر الشعرية تتفاوت بحسب دفقته الشعورية وتجربته
الخاصة، وجاءت القافية والروي متنوعتان. وفيما يتعلق بالإيقاع الداخلي ، فتميز
بتكرار عدة حروف أهمها روي القصيدة (القاف والدال والباء...) التي تعكس شدة
معاناة الشاعر وجهره بها، كما تكررت عدة حروف مهموسة (كالهاء والسين والصاد ...)
تعكس الجو النفسي المتأزم للشاعر وحالة الضعف والمرض والانكسار التي يوجد عليها في
غرفته الموصدة ليلا. ولم يقتصر التكرار عند الحروف، بل تشكل أيضا في بعض الكلمات
مثل (الباب ، والصمت....)، وعبارة (الصمت عميق).وهذا التكرار خلق على مستوى البنية
الإيقاعية للنص موسيقى تنسجم والمعاناة التي يعيشها السياب، لتسهيل نقل أثر هذه
المعاناة إلى المتلقي.
هكذا إذن
عبرت قصيدة "في الليل" لبدر شاكر السياب عن تجربة معاناته مع المرض والألم،
اللذان كانا يعجلان بموته، وهو ما كشف عنه الحوار الذي دار بينه وبين أمه، كتعبير
عن النهاية الحتمية القريبة التي تتربص به، وتؤطر القصيدة ككل من خلال ثنائية
الحياة والموت.
ومن خلال الإطار الإيقاعي
الجديد القائم على تكسير البنية التقليدية شكلا ومضمونا، وكذا الصور الفنية
القائمة على الانزياح والترميز، يمكننا القول إن القصيدة مثلت نموذجا لتكبير
البنية ، الحركة التي تمكنت من تجاوز الشكل التقليدي وإرساء شكل خاص بيها فنيا وإيقاعيا.
إرسال تعليق