U3F1ZWV6ZTQ4NTIyNzU1MDcxNzM5X0ZyZWUzMDYxMjM0OTcwMzc1MQ==
اِبحث داخل الموقع !

المعاني الإنسانية للموتِ والانبِعاث بينَ ت.س إليوت وبدر شاكر السيّاب - عبدالحق وفاق

 

المعاني الإنسانية للموتِ والانبِعاث بينَ ت.س إليوت وبدر شاكر السيّاب

الدكتور عبدالحق وفاق _ شاعر وناقد أدبي (المغرب)


نشر هذا المقال النقدي بمجلة العربي بالكويت _ العدد 728 يوليوز 2019




 

          تعد قصيدة "الأرض اليباب" لتوماس ستيرنز إليوت من القصائِد الإنجليزية الغنية بِصور الإبداع المُعبرة التي تفاعل معها الشعر العربي المُعاصر بمُستوياتٍ مُتعددة، ولأن إليوت كرّس كل مؤهلاته الفنية والثقافية والإبداعية في الأرض اليباب، فقد انكشفت ومضات القصيدة في فجوة الألم والأمل من خلال المعاني الإنسانية الشمولية التي سعى إلى تضمينها قصيدته، من تحقق للحب وفقدانه، وانتظار للحياة في واقع الموت، وما إلى ذلك من البؤر المتناقضة لمعاني الخصب والعقم، والفشل والنجاح، والموت والانبعاث...

         استطاع بدر شاكر السياب أن يستوعب الشكل الفني الذي صيغت من خلاله "الأرض اليباب" والرؤيا التي تحكّمت فيها، لذلك اشتركت "أنشودة المطر" و"الأرض اليباب" في اللحظات الإيقاعية التي تتولد عن موسيقى داخلية توجه الصورة كما توجه شكل الأداء الفني، وهو ما أتاح إمكانية التحول من متوازية إلى أخرى من المتوازيات المتناقضة التي تنتظم وحدات "أنشودة المطر" من خلالها، وتكتسب معانيها عبر ما توحي إليه من دلالات في ارتباطها ببعضها البعض.

         يمكن القول إن "أنشودة المطر" تتمحور حول لحظة الشِّدة، التي هي لحظة الإبداع والتي توصف عند "دانتي" بحد وهمي فاصل بين "العالمين الذين يمثلان طرفي الصراع الأزلي في حياة الإنسان، والذي يشار إليه بتعبيرLimbo  في الكوميديا الإلهية التي شكلت أحد مصادر الأرض اليباب... وتجيء لحظة الشدة في أنشودة المطر أشبه بلحظة التجلي في ليلة القدر، والتي يعتقد أن خير وقت للحاق بها هو ساعة السحر"(1).

تُعد تيمة المَطَر، الصورة، التي رَسَمَ من خلالها إليوت معالم "الأرض اليباب" تعبيرا عن الواقع المأساوي الذي سعى إلى تصويره. وقد وظف السياب في أنشودته هذه التيمة التي تشي بتفاعله مع التجربة الإليوتية في الشعر واستيعابه لها، وإن كان قد تفاعل مع الجانب الشكلي التركيبي لإليوت أكثر مما يهم المضمون، فمفردة المطر التي تتكرر في "أنشودة المطر" على نحو منتظم في شكل لازمة صوتية تخلق جرسا موسيقيا متناغما يعمق من دلالات القصيدة، وتحيل على موضوعة "الماء" التي تحضر في "الأرض اليباب" والتي شكّلت موضوعة تفاعل معها السياب، واستوعب دلالات توظيفها. فقَوْلُ السّياب:

ودغدغت صمت العصافير على الشجر

أنشودة المطر

مطر...

مطر...

مطر...(2)

تَفَاعُلٌ مع إليوت في القسم الأخير مِن القصيدة المعنون بـِ "ما يقوله الرعد" what the thunder said، حيث يقول:

لو كان ثمة صخر

وماءٌ (...)

لو كان ثمة صوتُ الماء وحدَه

لا الزيز

...  ويابس العشب يغنّي

بل صوت ماء فوق صخرة (...)

لكن ليس ثمة ماء.(3)

 يتضح أن تيمة "المطر" و"الماء" التي حضرت عند إليوت، تحضر أيضا لدى السياب وتشكل محورا لقصيدته، خاصة وأن هذه التيمة حاضرة في الأساطير القديمة التي كان الشاعر على اطلاع بها، والتي وظفها إليوت ليصور واقع الأرض اليباب، بين انحباس المطر وانتظار نزوله، إضافة إلى كون المطر عنصرا من البيئتين الإنسانية والطبيعية.

تتردد مفردة "المطر" في أنشودة السياب على نحو يُضفي عليها إيقاعا موسيقيا تذوب فيه المعاني المعجمية والقواعد اللغوية، كما تتردد المفرد "water" "الماء" لدى إليوت بشكل يجعل من المطر مِحورا وتيمَة غالبة في الجزء الأخير من الأرض اليباب. ويكشف هذا التفاعل بين السياب وإليوت أن السياب قد استفاد من الحداثة الشعرية عند إليوت في تناول اللغة الشعرية، والتوظيف الثوري للغة الذي يحرر المفردات من براثن الابتذال والتكرار الممل.

 في أنشودة المطر تتوحد  الآلهة "عشتار" في الرؤية الشعرية مع الطبيعة التي تعزف أنشودة المطر والخصب، وتبدو لفظة "المطر" المتكررة، وكأنها تشير إلى ابتهال طقوسي إلى الربّة "عشتار" والطبيعة ليعُم المَطر، وتنبعِث الحياة وتشبع أرض العِـراق، أرض البوار والجياع والعُراة والعبِيد، يقول:

وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ

ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ .

مطر ...

مطر ...

مطر ...(4)

إن الإلحاح على المطر في القصيدة، والتوسل بالطبيعة وبالآلهة "عشتروت" لِتٌنزِل المَطر أو تُرسِل "أدونيس" أو "تموز" إله الخصب والنّماء، يرتبط من جِهة، برؤية السياب الشعرية المؤمنة بالبعث والحياة، ومن جهة أخرى بنظام سياسي إيديولوجي يدين نظاما أو سياسة ما، ويبشر بأخرى تلغي العبودية وتؤسس لغد جديد، يتحقق بمجيئه الخصب والنماء والعدل.

ولقد أعانت صور المطر المتعددة السياب "على بلورة ما أراد ان يقوله فنيا أو على بلورة ما أرادته مختلف الجماعات العراقية المتلهفة للمطر، لإزالة نوع الجفاف الذي تعانيه، فالأنشودة؛ أي أنشودة المطر، هي أنشودة هذه الجماعات وأنشودة السياب في الوقت نفسه"(5).

  تنطوي أنشودة المطر على مفارقة غريبة يُصبح من خلالها المطر رمزا للموت والحزن عوض أن يرمز إلى الحب والرومانسية والخصب. فإذا كانت الصورة المألوفة للمطر تحمل في طياتها معاني الفرح والسرور والأمل في عودة الخصب والنماء والحياة، فإن الصورة الجديدة التي حملها المطر في أنشودة السياب، تجعل المطر يُشعر الفرد بالحزن والوحدة والضياع والجوع والموت... يقول السياب:    

أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟

وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟

بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،

كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر ! (6)

    بالرغم من نُزول المَطر، إلا أنه في الواقِع عَقيم لا يُخصب. لذلك يدعو سقوطه إلى الحزن عوض أن يدعو إلى الفرح. ويعم الحزن كل شيء: فتبكي المزاريب، وتضيع هوية الإنسان فيفقد انتماءه، ويبرز هذا التناقض بين الرغبة والواقع وهو ما عده فراي حلما على المستوى الفردي وأسطورة على المستوى الجماعي. ويجمع المطر في الأنشودة رمز المتناقضات، مثل رمز البحر الذي هو علته، فالمطر رمز التضحية والفداء كالدم المراق. وهو رمز الطبقات الفقيرة الجائعة وهي أكثر التصاقا من غيرها بالأرض والطبيعة، ورمز الحب الذي يهب الحياة، ورمز البراءة البكر الأولى المتجسدة في الأطفال. وهو رمز الموتى الذين يرقدون بانتظار الانبعاث.(7)

ولو أمعنّا القراءة في "أنشودة المطر" لوجدنا أنه قد تمثل صورة "نيسان" إليوت في المقطع السابق، وهي صورة تقابل صورة إليوت بكل ما فيها من مغزى. فالذكريات والرغبات الحزينة ترجع إلينا حية مثلما يحيا النبات في شهر نسيان (أبريل). إذن، ما يقابل حزن نيسان عند إليوت، هو حزن المطر والمزاريب عند السياب.

يقول إليوت:

نيسان أقسى الشهور، يُخرج

الليلكَ من الأرض المَوات، يَمزج

الذكرى بالرغبة، يُحرِّك

خاملَ الجذور بغَيثِ الربيع (8)

 ونحن نعلم أن نيسان إليوت البريطاني أو الأوروبي يختلف عن نيسان السياب العراقي أو العربي، فنيسان الأول هو نيسان ماطر في أغلب الأحيان، أو هو يحتوي على رصيد من المطر يكفي لتهيئة حياة جديدة للنبات. أما ما يهيئ لمثل هذه الحياة في عِراق السياب فهو المطر بالدرجة الأولى. ومهما يكن واقع الحال، فإن تفتح الحياة في النبات هو الذي يبعث على تفتح الجروح عند الإنسان، كما توحي الصورة. وقد استطاع السياب بشاعرية فذة أن يلتقط هذا الإيحاء ويصنع منه صورته الشعرية داخل النسق العام للقصيدة. وهذا هو الإيحاء الذي يولد إثارة، لا علاقة مطابقة بين الواقع المحسوس والخيال الذهني(9).

إن أكثر ما تدل عليه صورة المطر عند السياب، هو أنه كان على وعي بأعمق أبعاد الصورة المماثلة عند إليوت، حيث أدرك السياب أن البعث أقسى من الموت لأنه يحمل معه البداية لا النهاية. فجاء مطر السياب مشابها لنيسان إليوت، مخاضا ينتهي إلى انبعاث يحرق المشاعر الدفينة التي تحييها حديقة الزهور من خلال عبرها، وهي صورة تقابلها عند السياب صورة المزاريب التي تبعث أصواتها ذكريات مماثلة تعبيرا  عن رؤيا فنية جديدة تحتفي بالثنائيات الضدية لمعاني الألم والأمل والموت والانبعاث.


 

 

هوامش:

 

1)    محمد شاهين، ت.س.إليوت...وأثره في الشعر العربي، آفاق للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2007. ص: 50.

2)    بدر شاكر السياب، أنشودة المطر، دار مجلة شعر، بيروت، الطبعة1، 1960، ص:  473.

3)    عبد الواحد لؤلؤة، الأرض اليباب: الشاعر والقصيدة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1995، ص: 53.

4)    بدر شاكر السياب، المرجع السابق، ص:  474.

5)    هاشم ياغي، الشعر الحديث بين النظرية والتطبيق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1981، ص: 39.

6)    بدر شاكر السياب، أنشودة المطر،  ص:  474.

7)    ريتا عوض، أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1978،  ص: 108.

8)    عبدالواحد لؤلؤة، المرجع السابق،  ص: 36.

9)    محمد شاهين، المرجع السابق، ص: 64.

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق