سؤال المرجعية في الكتابات الإبداعية على الفيسبوك
الدكتور عبدالحق وفاق – شاعر وناقد أدبي (المغرب)
نشرت هذه المقالة بصحيفة القدس العربي-عدد 19فبراير 2023
تُعَدُّ "التّقنِية" من أَشكالِ
التّطور التكنولوجي الحَديثِ الذي يَشهَد طَفْرَةً نوعِيَّة في بَلوَرة أشكالِه وتطويرِ
آلياته في السِّياق الكوني والرّقمي المُعاصر، الذي يُلغي مركزية المعلومات،
ويَنفِي مسافاتها وحدودَها، ويَحُولُ دون احتكارِها، أو تسعيرِها وجعلِها حِكْرا
على فِئة دون أخرى. لا سِيما وأنَّ المُجتمَعاتُ المُعاصِرة تعيشُ اليَوم في
تَطلُّعٍ مُستمر إلى أَشكالٍ من السّبق والتّقدم الذي ما فتِئت تعمَل جاهِدة
لتحصِيله في مَجالات عديدة.
قد أدّى
تَقَدُّمُ تقنية المَعلومات إلى تَسْريحِ أشكالِ من المَعرِفة ومُشاركتِها على نِطاقٍ
أوسع، كما أسْهَم هذا التطَوُّر المُتسارِع في إيجاد بَديلٍ عن النَّشر الوَرقي
التّقلِيدي، الذي يَتطلبُ وَقتا وتَكلُفَةً ومِسْطَرةً لا تَسمَحُ بِنَشرِ كل ما
هو مَكتوب، ووَساطَةً تَصنَعُ أحيانا في وقتٍ وجيزٍ كُتَّاباً وأُدباءَ وشُعراءَ
سُرعان ما يُرَوّجُ لهم –إِعلامُ الوساطةِ- مع أول إصدارٍ لهم.
أَسهم التطوّر التّقني التكنولوجي في بَلورة
مِنَصَّةٍ للتَواصُل الاجتماعي التفاعلي بين أفراد المجتمع الرقمي، من خلال قائمة
ذكيّة من تطبيقات وبَرْمَجِيات مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها موقع
"فايسبوك"، الذي يُشكِّل اليوم مِنَصَّة رقمية تفاعلية لِما نُسمّيه في
هذا المَقال توصِيفاً بـ"أدب الفايسبوك"، ومِنبَرا دينامِيَّا
لـ"التفاعل الأدبي"، أو كما يُطلِق عليه الباحث سعيد يقطين بـ
"الأدب الرقمي التفاعلي" في كتاب له بعنوان {النص المترابط ومستقبل
الثقافة العربية، نحو كتابة عربية رقمية} الصادر سنة 2008.
الأدب الرقمي التفاعلي؛ إذن، هو الذي يُقرأ
على شاشة الحاسوب أو باقي الوسائط الالكترونية
الذكية الأخرى، والتي تُوَفِّر له خِدْمات ذكية متعَددة عن طريق النص
"الكتابة" أو الصوت أو الصورة أو الحركة، من خلال فضاء ذكي يتيح إمكانات
التحكم والتفاعل والمشاركة والتعليق والإبداء بوجهات النظر.
ظهر هذا
الأدب الجديد أواسط الخمسينات من القرن العشرين بالدول الغربية السبّاقة
لتكنولوجيا المعلومات وتقنياتها، بكل من ألمانيا وكندا وفرنسا، لينتقل إلى البيئة
العربية المغربية خلال الثمانينيات مع موجة انتشار الحواسيب الشخصية، وبداية
المَدِّ العَوْلَمِي بالأقطار العربية.
يمكن القول أن "أدب الفايسبوك" –ولا
نعنِي بالتّسمية تَهكُّما أو ما شابه- في طريقٍ لتعويض الأدب الوَرقي، بحيث نَجِدُ
مجموعة من الأسماء الأدبية التي تَنشَطُ "رَقمِيا" و"تِقنِيا"
بوثيرة ما تنشَطُ وَرَقِيا أو أكثَر، وتُحقِّقُ أرقاما مِن المُتابعَةِ والقِراءَة
والمُشاركة، بَل أحيانا يَكتُبُ المتَتَبِّعون على سبيلِ التّعليقِ والتّحليلِ
نُصُوصا أخرى مُوازية، تُفَسّر ما يُنشَر وتبحَثُ في عناصِره وامتداداته المَعرفية
والاجتماعية والثقافية. ونمثِّل لذلك بمَجموعة من الأسماء المغربية في الإبداع
والنقد الأدبي، التي تُغني المِنصّة الزرقاء للفايسبوك بإبداعاتٍ شِعريةٍ وقصصِيّةٍ
مائزةٍ جدا، وبمقالاتٍ عِلميةٍ ونقديةٍ رَصينَةٍ، من هذه الأسماء على سبيل المِثال
لا الحصر: سعيد يقطين، عبداللطيف الوراري، محمد بنطلحة، محمد العمري، محمد
بنميلود، ابراهيم قهوايجي، عبدالرحيم العلام، محمد الشيخي، عبدالرحيم الخصار،
عبدالرحيم الصايل، أحمد زنيبر، وداد بنموسى، عبيد لبروزين، محمد العياشي، أحمد
بلحاج آيت وارهام، حسن بولهويشات، عزالدين المعتصم، نصرالدين شردال، سعيد الفلاق ...إلخ.
لا أحد يُنكِر حَجْم الحَاجة إلى تِقنياتِ
التّكنولوجيا في الظّرفيّة الراهِنة، وإلى الخيارات المَعرفية-التواصُلية والتفاعُلية
التي بات يُوفّرُها "أدب الفايسبوك" من خلال تَعَدُّدية المُبدِع
والقارئ والسهولة في الاطِّلاع والمُشاركة والإبداء بوجهة النظر، وإن كان أحيانا يُشكل
فرصةً سانِحةً لبعض النّصوص الرديئة والمُبتذلة والأسماء التي لا قرابة لها
بالإبداع رقميا أو ورقيا، في ظل ما يُسميه الناقد المغربي محمد أسليم بـ"الغَفوة
الالكترونية". كما لا يمكِنُ أن يُفهَم من هذا أننا نجْحد "الإبداع
الورقي" فَضْلَه. فلهذا الأخير السّبق، ووجوده إلى جانبِ الإبداع الرقمِي لا
يعني إلغاؤه أو تجاوزه كما يذهب إلى ذلك دُعاة الرقمنة.
نَتساءَل في خِضَم هذا التطور التكنولوجي - المعرفي
الذي نَشهَده، إلى أيِّ حد يُمكِن أن تُشكِّل المقالات العلمية الرصينة والإبداعات
الأدبية الأصيلة، التي تُنشَر على الفايسبوك مَرْجِعا للدراسين والباحثين في صنوف
المعرفة والأدب؟
إرسال تعليق