العَالم الشعري المتشظي بينَ بدر شاكر السياب وت.س.إليوت
الدكتور عبدالحق وفــاق – شاعر وناقد أدبي (المغرب)
لا شَكَّ أنَّ قصيدة "الأرض
اليباب"، تعد من القصائد الإنجليزية التي استطاع من خلالها "إليوت"
التعبير عن واقع اجتماعي متشظي القيم، ومتصدع الأركان، شهدته أروبا بعد الحرب
العالمية الأولى. ولأن الشاعر أراد أن تكون "الأرض اليباب" صورة –على قتامتها-
تعكس واقع أروبا الجديد، فقد انكشفت ومضات القصيدة عبر فجوة الألَـم والأمَـل من
خلال المعاني الإنسانية المُتضمنة في القصيدة، من تحقق للحب وفقدانه، وانتظار
للحياة في واقع الموت، وما إلى ذلك من البؤر المتناقضة للخصب والعقم، والفشل
والنجاح...
استطاع الشاعر العراقي "بدر شاكر السياب" أن يستوعب الشكل الفني الذي صيغت من خلاله "الأرض اليباب" والرؤيا المتشظية، والفلسفة المنشطرة التي تحكمت فيها، لذلك اشتركت "أنشودة المطر" و"الأرض اليباب" في اللحظات الإيقاعية التي يسِمُها التشظي والانشطار، وتشكل عالما شِعريا بين الشاعرَينِ، يتأرجَحُ بين الألم والأمل، وبين لحظات الشِّدة والإبداع.
ويمكن القول إن
"أنشودة المطر" تتمحور حول لحظة الشِّدة، التي هي لحظة الإبداع والتي
توصف عند دانتي بحد وهمي فاصل بين العالمين الذين يمثلان طرفي الصراع الأزلي في
حياة الإنسان، والذي يشار إليه بتعبيرLimbo في
الكوميديا الإلهية التي شكلت أحد مصادر الأرض اليباب... وتجيء لحظة الشدة في
أنشودة المطر أشبه بلحظة التجلي في ليلة القدر، والتي يعتقد أن خير وقت للحاق بها
هو ساعة السحر. (1)
ينطلق إليوت في "الأرض اليباب" من فِكرة أن العالم قد تحول إلى
أرضٍ يَبَابٍ بعد الحرب العالمية الأولى. وبعد انتشار مظاهر الخراب والأفول، أصبح أمل الشاعر في أن تستعيد الأرض خصوبتها وتندحِر
مظاهر الدّمار، فكانت وسيلته في ذلك الاستعانة بأسطورة "تموز" عند أهل
بابل أو "أدونيس" عند الفينيقيين والإغريق كترميز يُراد من خلال توظيفه
عودة مظاهر الخصب والحياة والانبعاث، وتجسيد أمل الشاعر في أن يستعيد العالم
توازنه وتستعيد الأرض نظامها وخصوبتها.
كرّس إليوت في هذه القصيدة –الأرض اليباب- كل
إمكاناته للتعبير عن القضايا الفكرية التي راودته منذ زمن طويل، لتجسد ما يعانيه
المرء من بؤس، وما يحس به من آمال زائفة عن حقيقة الحياة والوجود، وانفصام في
المعارف والمدركات والحقائق. وقد اتخذ من الرمزية أساسا للتعبير عن هذه القضايا
الإنسانية من خلال صور بليغة وقالب موضوعي يعادل بين الفكرة والعاطفة، متأثرا بما
كان يقرأه لجيسي وستون وجيمس فريزر وإزرا باوند، وباقي شعراء الرمزية وكتابها
الكبار.
يقول فائق متى " والأرض الخراب في نظر
إليوت ما هي إلا أوربا الحديثة وسكانها هم الذين يكونون المجتمع الأروبي بعد الحرب
العالمية الأولى. وقد شهدت تلك السنوات اضمحلالا في الأخلاق، وبعدا عن مقومات
الحياة، وجهلا بعناصرها الأولية، وإيمانا بقوة المادة وزعزعة في القيم
الروحية" (2)
عَمَد شعراء الحداثة
الشعرية العربية إلى التفاعل مع طريقة إليوت وزاوية نظره إلى عالمه اليباب، الذين
وجدوا فيه ما ينطبق على الواقع العربي المُتَشَظّي، الذي كان أمَلُهم في أن ينبعث
من جموده، ويتحقق حلمهم بالنهضة العربية.
وفي مقدمة هؤلاء الشعراء؛ بدر شاكر السياب الذي يُعد أكثرهم استخداما لأسطُورة
المَوت والانبِعاث.
يقول السياب عن توظيف
الأسطورة في الشعر العربي الحديث:" لم تكن الحاجة إلى الرمز والأسطورة أمَسُّ
مما هي عليه اليوم. فنحن نعيش عالما لا شِعر فيه، أعني أن القيم التي تسوده قيم لا
شِعرية، والكلِمة العليا فيها للمادة لا الروح...فماذا يفعل الشاعر إذن ،عاد إلى الأساطير
و الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزءا من هذا العالم، عاد إليها
ليستعملها رموزا وليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب والحديد، كما راح من جهة
أخرى يخلق أساطير جديدة، وإن كانت محاولاته في هذا النوع من الأساطير قليلة حتى
الآن" (3).
شَكّلت التوظيف الأسطوري في
الشعر العربي المعاصر مُحاولة إبداعية تكشِف الرّغبة في خَلقِ عالمٍ جديد يَحفَل
بالحياةِ، ينبَعِثُ من رماد العالم الأول ، يتنفس الأمل من المأساة، والانبعاث من
الموت. يرى السياب أن مظاهر الموت والمأساة التي يعيشها العالم العربي ضرورة حتمية
لينبعث من جديد، وتتحقق النهضة العربية التي يحلم بها، فيتمنى الموت لأنه يؤمن أن
الانبعاث والحياة هما مرحلة تالية للموت.
يقول في قصيدة "النهر والموت":
أحسّ بالدّماءِ و الدّموعِ كالمِطر
ينضحَهنّ العالمَ الحزين (...)
أودُّ لو غرقتُ في دمِي إلى القَرار
لأحمِل العِبء مع البشَر
و أبعثُ الحياة إن موتِي انتصَار (4)
يَودّ الشّاعر لو يفتدي بنفسه المكافحين والمظلومين
من البَشر الذين تعج بِهم البلاد، ليخُط بدمِه طريق حريتهم وكرامتهم، وحينها يبعث الحياة
للأطفال حالماً ينتهي الظلم وترتفع رايات التغيير، وبموته غريقاً بدمه تأتي الحياة
إلى المستضعفين، ويغدو موته انتصارا للفقراء لأنَّه سيبعث الحياة في بلاده ، مقتديا بـِ "تموز"
رمز الحياة وإله الخصب، الذي لا يمنح
الحياة إلا بموته.
ومن أبرز قصائده التي تفاعلت مع الإنتاج
الشعري لإليوت، والتي تجسدت فيها أحلام السياب بالفجر المنبعث، وحملت في طياتها
مأساة تموز؛ مدينة السندباد، مدينة الآلهة، أنشودة المطر، تموز جيكور، سربروس في
بابل، النهر والموت...إلخ.
يقول السياب في قصيدة "جيكور
والمدينة":
وتلتفّ حَولي دروبُ المدينة
حِبالا من
الطين يمضُغْن قلبي ،
ويُعْطِين عن جَمْرةٍ فيه طينة
حبالا من
النار يَجْلِدْن عري الحقولِ الحزينة
ويَحْرِقْنَ
جَيْكُورَ في قاع روحي ،
ويزرعْنَ فيها رماد الضَّغينة
دروبٌ تقول
الأساطيرُ عَنْها (5)
يطالعنا السياب منذ عنوان القصيدة بقطبي الرؤيا
الشعرية فيها، وهما جيكور والمدينة. فجيكور هي القرية الصغيرة التي احتضنت الشاعر،
فصارت تحمل في أشعاره معاني البراءة والنقاء والطهر والوطن والكينونة. وفي المقابل
تحضر المدينة في زيها المتناقض. فمنذ السطر الأول يطالع الشاعر الوجه القاسي لهذه المدينة
، متمثلا في تلك الدروب المظلمة التي تحاصره وتلتف حوله، فتشعره بالحصار والوحدة
والسجن. ويأخذ هذا الحصار مدلولا جديدا ، حيث تتحول هذه الدروب إلى حبال وارتباط
.. فيُعطِي إيحاء بالموت والخنق والأسر ، وبعد ذلك نجد هذه الحبال التي تحولت إليها
الدروب، من الطين تمضغ قلب الشاعر، وتستبدل بالجمرة المتوهجة فيه طينة خامدة منطفئة،
فيصبح موت الشاعر في المدينة موت معنوي، وهبوط بروح الشاعر من آفاق التوهج إلى حضيض
الطين والخمود وواقع الحرق والرماد.
لعل إحساسَ بِوَحشِية المَدينة، ومظاهرها
المادية والميكانيكية، هو نفسه الإحساس التي كان يحسه إليوت تجاه مظاهر المدينة
الزائفة والمحتشدة بالتناقضات، بعد أن كانت في الماضي رمزا للأُمومة والهُدوء
والأمَان، لتتحول في العصر الحديث إلى طرقاتٍ وتشعّبات تفقدها تماسكها وتآلف
سكانها. وهو ما عبر عنه إليوت في الجزء الأول "دفن الموتى" THE BURIAL OF THE DEAD من الأرض اليباب، يقول:
مدينة
الوهم،
تحت الضباب
الأسمر من فجر شتائي،
إنسابَ
جُمهور على جسر لندن، غفير،
ماكنتُ
أحسَب أن الموت قد طوى مثل هذا الجمع
حسراتٍ،
قصيرة متقطعة، كانوا ينفثون،
وكل امرئ قد ثبَّت ناظريه أمام قدميه
(6).
أصبحت
المدينة الحديثة زائفة تحت ضباب يفقدها هويتها وملامحها، يجعل الفرد فيها يحس
بالغربة والأُفول. وهي الرؤيا التي استلهمها السياب على إثر قراءته لإليوت. يكشف
هذا التوظيف لأُسطُورة "تموز" رغبة الشّاعر في خلقٍ وانبعاث جديد من
واقع الحياة الميكانيكية الآلية التي تصنع من الآدميين آلات متحركة، تخلق منهم
قطعا شطرنجية تتحرك على رقعة "الأرض اليباب"، مُشَكلة دائرة مغلقة لحياة
المدينة الضاربة في الفراغ والتِّيه.
يقول إليوت تعبيرا عن هذه المأساة:
أفكِّر بأننا في زقاق الجرذان
حيث أضاع الموتى عظامَهم
" ما ذلك الصوت؟"
الريح تحت الباب
" والآن ما ذلك الصوت؟ ما الذي تفعل الريح؟"
لا شيء ثانية لا شيء.
"هل تعلم لا شيء؟ هل ترى لا شيء؟ هل تذكر
لا شيء؟"
أذكر(7)
يكرر إليوت إشارته إلى موجة اللاشيئِية التي يحيا سُكان الأرض اليباب
في وسطِها، بالإضافة إلى مَمَرِّ الجرذان وهو الذي يرمز إلى محتويات الأرض اليباب،
حيث أن حياة أهلها تتسم بطابع الموت. وفي هذا الفراغ المخيم على كل الأرجاء لا
نسمع سوى عويل الرياح وهي تداعب أسفل الباب (8).
يوظف السياب فكرة الدفن
الواردة في الجزء الأول من الأرض اليباب "دفن الموتى" في العديد من قصائده،
لعل أبرزها "سربروس في بابل"، التي ترسخ فكرة الانبعاث من جديد. يقول:
ليعوِ سربَروسُ في الدُّروب
و ينبش التّراب عن إلهنا الدفين
تموزنا الطّعين
يأكله يَمص عينيه إلى القرار
يقصم صلبه القوي يحطم الجرار
بين يديه ينثر الورود و الشقيق!
(9)
يحرس "سربروس" مملكة الموت في
الأساطير اليونانية، ويحضُر عند إليوت في الجزء الأول من الأرض اليباب "دفن الموتى"
، حتى لا ينبش الجثة التي زرعها الشخص الذي يخاطبه ويمنعها من الاخضرار، يقول
إليوت:
"يا مَن كُنتَ معي على السفائِن في "مايلي" !
"تلك الجثة التي زَرَعتَها السنة الماضية في حديقتك،
"هل بدأت تورق؟ هل ستزهر هذه السنة؟
"أم أن الصقيع المُباغت قد أقض مضجعها؟
"أبعدِ الكلبَ عنها، فهو صديق للبشر،
"وإلا فسيحفر
بأظافره ويستخرجها ثانية!!" (10)
نخلص إذن، أن الشاعران عبّرا من
خلال الاستعانة بأسطورة "تموز وعشتار" عن رغبتهما في انبعاث حضاري جديد،
تجاوزا للمأساة التي أحسها كل واحد منهما في مجتمعه، والتي تعكِس المَوت الحضاري
والاجتماعي والقيمي، الذي ساد بعد فترة الحرب العالمية الأولى. وتكشف هذه الرغبة
بانبعاث حضاري جديد عمق المأساة، والإيمان القوي بعودة مظاهر الخصب والحياة. وهو
ما سيكرس فيما بعد ثنائية جدلية، ستؤثر بشكل بالغ في الشعر العربي الحديث بعد
السياب، وهي ثنائية "الموت والانبعاث" التي ستستقطب ثلة من الشعراء الذي
نهلوا من التوظيف الرمزي والأسطوي، والذين سُمُّوا بالشعراء "التموزيين".
هوامش:
(1) محمد شاهين، شاهين
محمد، ت.س.إليوت...وأثره في الشعر العربي "السياب-صلاح عبدالصبور-محمود
درويش"، دراسة مقارنة، آفاق للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2007. ص: 50.
(2) فائق متى، إليوت، دار المعارف، الطبعة
الثانية د-ت، ص: 9.
(3) ناجي علوش، مقدمة ديوان بدر شاكر السياب،
المجلد الأول، دار العودة، بيروت، د-ت ص: 112.
(4) بدر شاكر السياب، الأعمال الشعرية الكاملة ، د-ت
، ص: 156
(5) بدر شاكر السياب، الأعمال الشعرية الكاملة ، د-ت
، ص: 183
(6) عبدالواحد لؤلؤة، اليوت: الارض اليباب ،
الشاعر والقصيدة، المؤسسة العربية للنشر، ص: 38.
(7) عبدالواحد لؤلؤة، المرجع السابق، ص: 41.
(8) فائق متى، المرجع السابق، ص : 113.
(9) بدر شاكر السياب، الأعمال الشعرية
الكاملة، ص: 356.
(10) عبدالواحد لؤلؤة، المرجع السابق، ص: 39.
إرسال تعليق