ورثت عن طفولتي ميلا شديدا إلى أصدقائي، ورغبة ملحة في أن أحيا بينهم فأمزج أتراحي بأتراحهم وأفراحي بأفراحهم، وإذا لم يخطئني الصواب فتلك طبيعة أشارك فيها معظم بني قومي، وهي طبيعة جميلة بما تشتمل عليه من وفاء، مثل الصداقة العليا ولكنها في نفس الوقت طبيعة خطيرة كلفني التخلص منها مجهودا شاقا، لأن الحياة بين الأصدقاء فحسب، تضيق الدائرة التي تتصل بها مع المجتمع تضييقا محسوسا، حتى إذا مر وقت كاف بدأت الأسباب تتقطع بيننا وبين المحيط الأكبر، فلا نحس إلا بإحساس طائفة محدودة من الأفراد.
ثم ينتقل هذا التأثير إلى عقليتنا
فنتأثر دون أن نحس بمجموعة صغيرة من الأصدقاء يصعب علينا التمييز بين ما فيها من
خطأ وصواب مع مرور الأيام، وتضعف فينا القدرة على الامتزاج بالغير، حتى إذا كتب
على هذه المجموعة أن تتفرق أصبح أفرادها كالأيتام في المجتمع، وقد تعرضت لهذه
التجربة عدة مرات.
و كان أصدقاء صباي – وهذا صادق بالنسبة لجميع الناس في
صباهم – هم الذين وضعتهم المصادفة في طريقي، أي بسبب الجوار في السكن أو الزمالة
في المدرسة، وكانت الرابطة المتينة القوية التي تجمع بيننا هي رابطة اللعب، كما لا
أحتاج أن أقول فقد كان اللعب في تلك السنين الجميلة غاية الحياة القصوى التي نعيش
لتحقيقها.
وقد نسيت أسماء هؤلاء الأصدقاء، وإن كانت صورهم لا تزال
تسكن مخيلتي، وقد تركت أحدهم فتى صغيرا نحيفا، ثم قابلته بعد ذلك رجلا بدينا أصلع
الرأس، ففغر فاه حينما عرفته في الحال، ولم تكن بصفة عامة تميزهم خاصية فيما كنا
نضطرب فيه من جهد و لعب، إلا فتى واحدا أذكر أن اسمه كان (عبد الواحد)، فقد كان
حقا من النماذج البشرية التي عرفتها و صادفتها و أحببتها في طفولتي. و لست أدري لماذا كان والدي يكرهه كرها عميقا، فقد دأب
ينهاني عن اللعب معه، و تفنن في تشويه سيرته، وإلصاق التهم به، إذ كان في نظره
أكبر صعلوك أنجبه القرن العشرون، و لكنني لم أتأثر لذلك، لأنني كنت أعلم أن والدي
لا يعرفه.
جميل استاذ ❤
ردحذف