الجماليات الفنية الجديدة في القصيدة
المغربية المعاصرة
الدكتور عبدالحق وفاق – شاعر وناقد أدبي (المغرب)
قطعت القصيدة المغربية المُعاصرة ابتداء من الثمانينيات إلى الآن مراحل مهمة من التجريب والإبداع في إطار جماليات فنية وتعبيرية جديدة، أتاحت لها الاستفادة من تراكم التجارب الإبداعية قبل الثمانينيات، والبحث عن عوالم إبداعية جديدة في إطار رؤيا فنية جديدة ومغايرة، تكشف العالم وتواجه قضاياه، وتحرر الذات الشاعرة من صمتها وانغلاقها في القيمي والأخلاقي الاجتماعي. وهو ما ينم عن تجديد في الآليات التعبيرية والكتابية، وعن تحول في الحس الفني والجمالي، سواء في كتابة الشعر أو تلقيه.
يزداد الوعي بالتقنيات التعبيرية والفنية الشعرية بشكل
أوضح في مرحلة التسعينيات، حيت تُرسم خارطة شعرية جديدة تحمل سِمات المغايرة
والانفتاح على أنماط تعبيرية أخرى كالتشكيل، والسرد، والمحكي اليومي...إلخ، إيذانا
بميلاد حساسية شعرية جديدة أكثر مرونة وانفتاحا، قادرة على التوليف بين الشعراء
بعيدا عن تصنيفات الحداثة والقدامة والجيل والزمن، كما أنها تجربة إبداعية تشكل
امتدادا لباقي التجارب في سياق القصيدة المغربية الحديثة التي سبقتها بعقود من
الزمن، هي إذن لا تقتصر على الشعراء الجدد فحسب، بل القدامى منهم أيضا كمحمد
السرغيني، محمد بنطلحة، محمد بنيس، مبارك وساط، ومحمد الميموني... على سبيل
التمثيل. ولعل انخراط شعراء من حساسيات زمنية مختلفة في التجربة الجمالية للحساسية
الجديدة دليل على ما نؤكد عليه من أواصر الامتداد والاستمرارية الجمالية في تحديث
القصيدة المغربية.
يقول عبداللطيف الوراري: "يستعصي أن نجمع أفراد
الحساسية الشعرية الجديدة داخل جيل، أو نحجرهم على تصنيف عقدي كما كان جاريا من
قبل، وذلك لما خلقته من جماليات كتابية مغايرة عكست فهما جديدا لآليات تدبر الكيان
الشعري، مما يمكن للمهتم أن يتتبعه في دواوين شعرائها، التي شرعت في الظهور منذ
أواخر التسعينيات"([1]).
إن هذه الحساسية الشعرية الجديدة، وبما أنها تشمل الراهن
الشعري المتشكل والمتجدد باستمرار، الذي يعْرِف زخما إبداعيا ملموسا ومتواصلا،
وكونها مرنة ومنفتحة على أصوات شعرية زمنية متباينة، وقادرة على استدماج حساسيات
شعرية أخرى، فهي بحاجة إلى الوعي بجمالياتها الفنية، وإلى المواكبة النقدية
المتحررة من إيديولوجيات الزمن، حتى لا تكون هذه الحساسية إيذانا بفساد الذوق
الشعري، ومدعاة إلى استسهال الكتابة الشعرية، بما هي قواعد وثوابت فنية راسخة، ظلت
خاصية مميزة للقصيدة المغربية_على انعطافاتها_ لعقود من الزمن، وحتى لا تكون
المواكبة النقدية موقف تغليط أو رفض لهذه الجماليات الجديدة، انتصارا للقوالب
الثابتة التي ظلت توجه عملية الإبداع الشعري لقرون من الزمن.
لهذه الحساسية سمات فنية جديدة، وبالتالي هي مغايِرة
لبعض سمات القصيدة في مراحل سابقة، يشكل المكون العروضي، أبرز هذه الملامح التي لا
تعد ضرورية في المنجز الشعري، خاصة عندما نتحدث عن التجارب الشعرية في قصيدة النثر
أو القصيدة الشذرة أو الهايكو، حيث الاشتغال يكون بشكل أكبر على المكون الإيقاعي
الداخلي الغني بالتقابلات والموازنات الصوتية. لذلك يذهب أحمد العمراوي إلى اعتبار
الحساسية الشعرية الجديدة حاسمة مع بعض المسلمات التقليدية، تلك التي تحصر الشعر
في التعريف الذي يجعل المكون العروضي حدا بين الشعر والنثر، يقول: "لقد حسم
شعر الحساسية الجديدة مع بعض المسلمات التقليدية التي ما زالت حاضرة بشكل ما على
المستوى الرسمي، وتلك مفارقة، والتي تشكل المقياس الأول لجودة القصيدة، بل ولتمييز
الشعر عن غيره من الأجناس الأخرى، نعني ذلك التعريف المتداول في مدارسنا بشكل من
الأشكال، والذي هو: الشعر هو الكلام الموزون المقفى".([2])
إذا نحن استقرأنا بشكل دقيق المنجز الشعري الذي يمثل هذه
الحساسية، نخلص إلى نتيجة مفادها، أن نصوص هذه التجربة الجمالية، لا يمثل العنصر
العروضي الوزني فيها مقياسا أساسا لجودة الشعر، أو لماهيته الأجناسية ككل، سيما
وأن هناك هجرة مقصودة نحو النثري والحكائي-السردي والتشكيلي، وغير ذلك من الفنيات
الجديدة في تجارب هذه الحساسية الغنية على مستوى الرؤى. ومن الشواعر والشعراء
الذين ينضوون تحت لوائها نذكر على سبيل الإشارة لا الحصر: ياسين عدنان، نبيل منصر،
عبدالرحيم الخصار، عزالدين شنتوف، كمال أخلاقي، الزبير خياط، حسن بولهويشات،
إبراهيم قهوايجي، سعيد الباز، وداد بنموسى، إكرام عبدي، صباح الدبي، إيمان خطابي،
رشيد الخديري... إلخ.
يقول محمد الديهاجي وهو يعتبر هذه التجربة الشعرية
تتجاوز الرهان على المعنى إلى الرهان على أثر الأثر la trace de trace، "إن ما يميزُ القصيدة عند شعراء الحساسية الجديدة، وهم بالمناسبة
شعراء ارتادُوا طريق المُغامرة والمُخاطرة، بالمعنى النيتشوي، كونُها كتابة تنبثق
عن ذات مُتشظّية، ذات ترفُضُ بشكل مطلق الامتثال لشكل نمطي واحد، أو عمارة محدّدة
سلفا، وعطفا، هي ذات جاحدة بكلّ تنميط أو تحنيط، ديدنُها الأبدي هو اللاثبات، حيث
إنها لا تستقرُّ في شكل ثابت، دائمة التّجدُّد، عبر النبش والحفر في أراضي الشعر
المُستباحة، بمعاول التجريب والتنقيب. وهذا البحث الأركيولوجي ليس عملية مؤقّتة،
بل هي عملية دائمة ومستمرة، لأن الشاعر من هؤلاء لا يطمئنُّ إلى نتائجه وإنجازاته
المؤقتّة، فالتخوم هنا مُشْرَعَة فقط على التخوم وهكذا…" ([3]).
تقول وداد بنموسى في قصيدة بعنوان "توسُّل" من
ديوانها "زوبعة في جسد":
لا تتركني بَعدك في الشَّقَاء الأعنَف
خُذنِي فيك
نجري سَويا تحتَ مياه الأبَد
ونُطفِئ معًا
فَتيلَ آخرِ نبضَة
لِنَندَسَّ في طُمأنينَة واسِعَة...
كأنها بيَاضُ الأزَل([4])
هذا المقطع نداء قلبِي صريح لاتقاء الشقاء الأعنف الذي
تهابه الشاعرة في غمرة البعد والنأي عن الحبيب، والملاحظ أن لغته المباشِرة
والخالية من ضروب التعقيد والغموضِ إلا من بعض الانزياحات اللغوية، لم تحُلْ دونَ
أن يكون شاعريا مُعبرا عن صورة التعلُّق بهذا الحبيب، الذي ترجو الشاعرة أن تأنَسَ
بهِ إلى آخر البياض الأزل والطمأنينة الواسعة المنتصرة على كل أشكال الأنانية.
أما الذات عن محمد بنيس فليست أقل غربة، فهي تنشطر إلى
نصفين، وتتخذ مظاهر وتجليات تحيل من جهة على رؤيا الشاعر الفنية، ومن جهة أخرى على
مرجعية تاريخية في الذاكرة العربية، تحن إلى زمن الوصل بالأندلس.
يقول في قصيدة "أنا لا أنا" ضمن ديوانه
"كتاب الحب":
أنا الأندلُسِيّ المُقيمُ بينَ لذائِذِ الوَصلِ
وحَشرَجَاتِ البَيْن
أنا الظاهِريّ
القُرطُبِي
الهَاجِرُ لكلِّ وِزارَةٍ وسُلطان
أنَا الذي ربّيتُ بينَ حُجُورِ النِّساء
بينَ أيدِيهِنّ نَشَأت
وهُنّ اللواتِي علَّمنَنِي الشِّعر والخَطوَ والقُرآن
وَمِن أسرارهنّ عَلِمتُ ما لا يَكادُ يعلَمُه غَيري([5])
تحيل عبارة "الأندلسي" في الذاكرة العربية على
الأندلس أو الفردوس المفقود، و"القرطبي" على قرطبة التي تقع جنوب
إسبانيا، حيث كانت تعد في تلك الفترة التاريخية من الحكم الإسلامي مركزا سياسيا
وثقافيا له شأن كبير، لذلك فالشاعر يؤكد انتماءه لهذه الأرض التي رُبِّيَ بين
حُجُورِ نسائِها اللواتي علَّمنَهُ الشعر والخط والقرآن.
نقرأ في قصيدة أخرى بعنوان "يتمشى على رمل
قديم" للشاعر مبارك وساط، إذ يقول:
دونَ رغبةٍ منهُ
تَحوَّلَ خِلال الليل إِلى طائرٍ من نار
وجابَ العَديدَ من الحدائِق والحُقُول
وَحَدَثَ أنَّه سَبَّبَ حَريقًا في حَقْلٍ
تَنَاوَل بِه كَرَزًا
وَخَزهُ ضَمِيرَه بِشِدّة في أثناءِ اللَّيل
لَكنّه في الصباحِ جَاءَ إلى مَكتَبِه
في هيأَته المعهودَة باستِثناءِ
أصابِعِهِ التي كَانَتْ عُقَلُها
قَد أصبَحَت جَمَرات.([6])
يُصور المقطع الشعري مشهدا تتحول فيه صورة الاستسلام
للّذة إلى وخز للضمير وإحساس بالظلم، سيما عند انكشاف الأمر وتحول هذه اللحظة
العابرة إلى سِجن نفسي لا يفارق الذاكرة وهي تستعيد تفاصيل هذا الطائر الطائش
العابث بحقول الكرز.
يُعبِّر نجيب خداري بلغة متحررة من ضروب الغموض والتعقيد
اللفظي عن الوفاء للأمكنة، إذ تتحول من مجرد فضاءات مأهولة إلى وُشومٍ في الذاكرة
والوجدان، تأبى أن تغادرها الألوان والأصوات والظلال والنداءات.
يقول في قصيدة "عُبور" من ديوانه "يبتل
بالضوء":
لَمْ يُغادِر اللَّونُ
هَذَا البَابُ
لَم يُغادِرهُ الهَدِيل.
يَتراخَى في ظَهِيرَتِه
ظلّ النوافِذِ
والسّرخَسِ العَجُوزِ
يَتصَادَى في ألواحِه
نِداءٌ غَامِضٌ
وَمَاءٌ حَزِينٌ.
لَمْ يُغادِر أَرضَه
هذَا البَاب
وَفي مِرآتِه
تَعبُرُ الكائنات([7])
تبدو الصورة مختلفة تماما عند الشاعر مصطفى ملح للحياة
التي لا تَدينُ للأماكِن ولا للأفرادِ، لأنها افتراضية ليس إلا، أُناسُها كائنات
من وَرق، يعيشون في عُلَب التواصل، يختلف قُوتُهم اليومي تماما، حتى أطباقهم لا
تُشتَهى، أما مشاعرهم فهي أبعد أن تكون حقيقية أو صادقة، فهي افتراء وزَيْفٌ
تنكشِف عندَ أوّل مواجهة، يقول الشاعر في قصيدة "افتراضيون":
نَحنُ افتراضِيون في عُلبِ التواصل
كائِناتٌ مِن وَرَق،
لكنّنَا مُتَنَمِّرون، وصَادِمُون، وخارِقُون
وليسَ... لنَا مِن ضَوابِط:
كَائِناتٌ تَمضَغُ الزّقومَ، والدفلَى، وأطرافَ
الزّجَاج
العاشِقاتُ طرائِد، والعاشِقون فِخاخهن،
وداخل الحَاسوبِ أفراسٌ مُجَنّحَةٌ
تَعَرّت في الأفق:
خَيلٌ إناتٌ... نِصفُها ذَكَر
وجُغرافيا الخَيالِ مرابِطُ !([8])
يجوز لنا إذن بعد أن أدرجنا هذه القطوف الشعرية، وقمنا
بتعريف الحساسية الشعرية الجديدة في الشعر المغربي المعاصر، والراهن الشعري
المتجدد باستمرار، وبعد أن تعرفنا إلى سياق تشكلها، أن نحدد أبرز سماتها
الفنية المضمونية والجمالية في ما يلي:
- التفرد في الرؤيا والأفق
الفني والجمالي.
- تجاوز الثبات والقولبة
والتنميط إلى الكونية والاختلاف والتعدد.
- الاهتمام بالذات الشاعرة
المتشظية والمنشطرة والمتجددة باستمرار.
- بروز رؤى شعرية مغايرة
تحتفي بالخيبات والتشظي والانشطار واليأس والأمل.
- النزوع إلى التوظيف
اللغوي البسيط البعيد عن التعقيد والغموض.
- الاحتفاء بالكتابة
الشذرية ذات البعد الجمالي والمشهَدي الساخر.
- التفاعل بشكل إيجابي مع
قصيدة النثر.
- الانفتاح على أنماط
إبداعية مغايرة مثل؛ السرد والحكي والتشكيل...إلخ.
- المزاوجة بين التفعيلي
والنثري.
-
الاهتمام بتفاصيل اليومي المعاش وهواجس الذات الشاعرة.
[1] ) عبد اللطيف الوراري، في راهن الشعر المغربي
من الجيل إلى الحساسية، منشورات دار التوحيدي، الطبعة الأولى، 2014، ص: 38.
[2]) أحمد العمراوي، الحساسية الشعرية الجديدة في
راهن الشعر المغربي، مجلة البلاغة والنقد الأدبي، العدد السابع 2016، ص:87.
[3] ) محمد الديهاجي، الحساسية الشعرية الجديدة
بالمغرب، جريدة المساء، عدد 14 أكتوبر 2015، ص: 7.
[4] )
وداد بنموسى، زوبعة في جسد، دار مرسم، الطبعة
الأولى 2013.، ص: 32
[5] ) محمد بنيس، كتاب الحب، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية 2009.، ص:13.
[6] )
مبارك وساط،
عيون طالما سافرت، منشورات بيت الشعر في المغرب، الطبعة الأولى 2016.، ص: 62,
[7]) نجيب خداري، يبتل بالضوء، دار مرسم، الطبعة
الأولى 2013.، ص: 29.
[8]) مصطفى ملح، أجراس بعيدة، منشورات اتحاد كتاب
المغرب، الطبعة الأولى 2015، ص: 7.
إرسال تعليق