U3F1ZWV6ZTQ4NTIyNzU1MDcxNzM5X0ZyZWUzMDYxMjM0OTcwMzc1MQ==
اِبحث داخل الموقع !

إيمان الصغير - تقنيات الكتابة عند خورخي لويس بورخيس

 

تقنيات الكتابة عند خورخي لويس بورخيس
 قراءة في كتاب (الصانع)

 

إيمان الصغير- أستاذة باحثة من المغرب

 

     لطالما اعتَبر خورخي لويس بورخيس العالم مكتبة متنوعة، تفتح أبوابها لمن يريد قراءة هذا العالم وفهم أبجدياته وفك رموزه. انطلاقا من هذه الفكرة التي اتخذها بورخيس مبدأ في الكتابة، خلق لنا نصوصا هي في حد ذاته عبارة عن مكتبة غنية بمختلف الأجناس الأدبية والثقافات المتعددة، فمن يبحر في عالم بورخيس سيكتشف ولعه الشديد بالشعراء والشخصيات الروائية والأدبية والفلاسفة وبالميثولوجيا، إذ يبدع في كتاباته نصا ليس عاديا. يتحول بين أيدينا إلى مكتبة واسعة نطلع فيها على الفكر والدين والأدب والفلسفة والشعر والأسطورة وعلى ثقافات الشعوب المختلفة. تبعا لذلك يبقى النص البورخيسي، هجينا واسع الأفكار والمواضيع يتطلب قارئا مثقفا قادرا على متابعة بورخيس في تفكيره وعلى فهم رؤيته للعالم.



      إن بورخيس ليس كاتبا سهلا، فهو مثال للكاتب المثقف الذي يقرأ قبل أن يكتب، فدائما ما يصرح بأنه قارئ أكثر من كونه كاتبا. يجعلنا نعيد قراءة إبداعات الآخرين ونعيد قراءة الثقافة والادب والفكر بطريقته. فبالرغم من تعرضه للعمى وفقدانه القدرة على رؤية ضوء النهار، ظل يرى العالم بطريقته الخاصة وجعلنا نرى معه العالم بنفس الطريقة، فأهم ما يميزه هو كونه كاتبا متفائلا، يتفاءل بالنور رغم أن لا يرى إلا الظلام، فهو الذي يتلقى النقد بسخرية ولطافة ويؤيد منتقديه متمنيا أن يكون مكانهم ليعرض أعماله لنقد لاذع من طرفه ويعبر عن ذلك في سيرته الذاتية 1970 قائلا: " لقد بادلني الجميع عطفا لا يصدق. ليس لدي أعداء وحتى إن زعم البعض أنهم أعدائي فقد كانوا ذوي أريحية سخية ولم يسيئوا إلي، أبدا.  كل مرة أقرأ فيها مقالة تنتقدني، لا أجدني أتفق فقط مع كاتبها، ولكني أحس أنه كان بمقدوري أن أعمل عمله على نحو أفضل بكثير. قد يتعين علي، ربما أن أنصح أعدائي المفترضين بأن يبعثوا لي بانتقاداتهم قبل أن ينشروها، ضامنا لهم معونتي وسندي. بل كثيرا ما راودتني الرغبة، خفية، أن أكتب باسم مستعار مقالة لا رحمة فيها، ضدي. "، هكذا يتقبل بورخيس النقد بصدر رحب، ويرى عبد الكبير الخطيبي أن هذه سخرية لطيفة وحاذقة من شيخ سبعيني[1].

      ولا غرابة في تميز نصوص بورخيس عن غيرها، ما دام مبدأه ورؤيته الفكرية تتمحور حول اعتبار " العالم مكتبة، كل كتاب فيها هو أيضا مكتبة، تضم جميع كتب العالم. هذه هي الموضوعة التي تسري في عروق أعمال بورخيس "[2] وانطلاقا من هذا التفكير استطاع بورخيس أن يحدث ثورة في النثر الأمريكي اللاتيني، فقد ساهم في تطور فن القصة اللاتينية في القرن العشرين وإخراجها من رتابة الواقعية المفرطة، ليضفي عليها نوعا من الرمزية بأسلوب يعتمد فيه على المراوغة بين ما هو واقعي وما هو خيالي، كما أن تقنياته في الكتابة ترتكز على تحويل الأفكار  المجردة  إلى مواضيع حية.

     ويمكن أن نتبين تقنيات الكتابة عند بورخيس من خلال قراءة كتاب الصانع الذي يحتل مكانة خاصة عنده، حيث صرح بذلك في خاتمة الكتاب قائلا: " من بين جميع الكتب التي أسلمتها للمطابع، أظن أنه ما من كتاب شخصي مثل هذه الإضمامة التائهة التي احتشدت لخلق هذا المزيج، لا لشيء إلا لأنها تزخر بالتأملات والتوليدات". إن أهمية هذا الكتاب عند بورخيس تتجلى في كونه ينطوي على مجموعة من التأملات العميقة النابعة من تفكيره في كيفية صناعة العالم، والصانع عند بورخيس هو المبدع الذي يرسم صورة عن العالم بكل أشكاله وتلويناته، وبكل انسجاماته وتناقضاته، فبورخيس في هذا الكتاب هو الصانع الذي صنع عالما يجمع أزمنة مختلفة وثقافات متنوعة، عالم يضم مزيجا من الموضوعات والأفكار التي تضعنا أمام تساؤلات كبيرة تدفعنا للتأمل وتفتحنا على كل الاحتمالات.

    إن تجنيس كتاب الصانع ليس بالأمر الهين، فهو ليس مجموعة قصصية أو ديوان شعري أو رواية بل هو كتاب يجمع بين دفتيه أجناسا أدبية متنوعة تتأرجح بين الشعر والنثر والقصة القصيرة، فبورخيس كما يرى عبد الكبير خطيبي ابتدع جنسا أدبيا خاصا أطلق عليه "الجنس البورخيسي  يتناظر فيه الفكر ( فكر منفلت، نوسطالجي وساخر في نفس الوقت ) مع السرد والشعر "[3]

     ينقسم الكتاب إلى قسمين : القسم الأول يتضمن قصصا قصيرة ونصوصا نثرية يجمع فيها بين الواقع والخيال وبين الحقيقة والووهم تاركا القارئ تائها لا يعرف مصدر النصوص أهي من وحي الخيال أم من حقيقة الواقع؟ ويتناول فيها مواضيع كفكرة الموت، الحياة، الخلود الأحلام، الهوية، صراع الأنا، كما يطرح إشكالات كثيرة حول فكرة وجود الآلهة، يعبر كذلك عن مخاوفه تجاه المرايا التي تعكس تداعيات الزمن على ملامح الإنسان، فقد شكلت المرآة موضوعا لأغلب قصصه وأشعاره ومقالاته، حيث نجده يفصح عن تخوفه ورعبه من المرآة لأنها تعكس الحقيقة وتكشف له نفسه عارية من كل زيف، ويتخيلها تتابع أفعاله وتعكس إيماءاته فيحسها كعيون تلاحقه، وهذا أمر طبيعي فهناك الكثير من الناس لديهم خوف من رؤية أنفسهم على المرآة فهناك من لا يتقبل شكله، وهناك من تتهيأ له صورته المنعكسة كشبح يراقبه ويعكس تحركاته، تبعا لذلك فبورخيس يطرح من خلال المرآة إشكالية حقيقة وجود الإنسان الذي تعكسه هذه المرآة.

ومن الموضوعات التي أثارت اهتمامي في هذا الكتاب هو الصراع النفسي ومحاولة بحث بورخيس عن هويته ففي نص " بورخيس وأنا " كشف عن صراع الأنا مع ذاتها، صراع بورخيس الشاب مع بورخيس العجوز، فيقول " فأنا أعيش، وأسمح لنفسي أن أعيش حتى يبتدع بورخيس أدبه، ويبرر أدبه وجودي... أما أنا فسسأعيش في بورخس، وليس في نفسي ( إذا صح أنني شخص ما) رغم أنني أتعرف على نفسي في كتبه أقل مما في كتب كثيرة أخرى (...) قبل سنوات حاولت أن أحرر نفسي منه... ولا أعرف من منا الآن يكتب هذه السطور "[4] يتضح أن بروخيس يعيش قلقا وجوديا وصراعا ذاتيا مع أناه حتى اختلط عليه تحديد هوية من يكتب.

      أما القسم الثاني فيتضمن قصائد شعرية غير تقليدية شكلا وموضوعا وايقاعا يتداخل فيها أحيانا السرد بالشعر، وقد أبان بورخيس وهو شاعر عن درايته الواسعة بمختلف أساطير العصور والأزمان التي تمنح القصيدة طاقة رمزية وإيحائية خاصة وتفتح القارئ على أفق متنوع من الدلالات ويصل من خلالها الماضي الحاضر والمستقبل، كما أبان عن تأثره بمن سبقه من الشعراء من طراز أوفيد، شيلي، خورخي مانريكي وغيرهم ممن دأب على تخليد أثرهم في النص البورخيسي.

 

 

 



1)    عبد الكبير الخطيبي، بورخيس والشرق العربي، مجلة آفاق، العدد 2،1 يونيو 1992،  ص : 89

 [2] ) كتاب الصانع، مقدمة المترجم سعيد الغانمي، ص: 10.

 [3]) عبد الكبير الخطيبي، بورخيس والشرق العربي، ص:91.

[4])  بورخيس، الصانع، ص:68.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق