البناء اللغوي والصورة الفنية في الشعر العربي الحديث
الدكتور عبدالحق وفاق – شاعر وناقد أدبي (المغرب)
وبالعودة إلى لغة الشعر، إن أهم ما يميزها صدق التعبير عن الأفكار والخواطر الوجدانية عن طريق الإيحاء؛ فالشعر خلق لغوي جمالي ممتع، يبتعد عن التعبير المباشر وعن لغة التقرير التي تعتمد الألفاظ الواصفة، والمربوطة ربطاً تعسفياً من حيث التشابه الخارجي بين الأشياء، وهو في جذوره موضوع تجربة نفسية. والعملية الشعرية عملية تحويل التجربة إلى صور انفعالية تترك أثراً سحرياً، وإيحاء رائعاً في نفس المتلقي، ينم عن جهد، وخلق، وإبداع.
وتعد الصورة الجزء الأكثر فنية في بنية النص الشعري الحديث، فهي الملمح الرئيس المميز للحداثة الشعرية؛ ولذا فقد نبه النقاد والدارسون إلى الاهتمام بالجمال اللغوي في خصائصه التعبيرية المستوحاة من الإحساس الداخلي لصور البيان، والتي غذت فيما بعد معياراً لجودة النظم. والتي تعتبر الصورة عنصراً رئيساً في بنيته الداخلية بما يكمن في عناصرها من دهشة، ومفارقة، وانزياح، وخيال فسيح، يفتح الآفاق لدى المتلقيين لقراءات متعددة ومفتوحة.
إن مصطلح الصورة الشعرية أو الفنية من أكثر المصطلحات تداولاً في دراسة النص الشعري الحديث؛ لأّنها الوسيلة الفاعلة، التي تُوصلنا إلى إدراك تجربة الشاعر والوعاء الذي يستوعب تلك التجربة عن طريق السمو باللغة، وتفتيق طاقات الكلمة، فالصورة تنمو في داخل الشاعر مع النص الشعري ذاته، وليست شكلاً منفصلاً. وقوة الشعر تتمّثل " في الإيحاء عن طريق الصور الشعرية لا في التصريح بالأفكار مجردة ولا المبالغة في وصفها، تلك التي تجعل المشاعر والأحاسيس أقرب إلى التعميم والتجريد منها إلى التصوير والتخصيص، ومن ثم كانت للصورة أهمية خاصة "[2]
هذا فضلاً على أن التعبير بوساطة الصورة يجعل الشعر أكثر تجاوزاً للظواهر ومواجهة للحقيقة الباطنية. واللغة الشعرية المؤثرة هي تلك التي تستعين متجاوزة البنية التركيبية الأفقية بعلاقات تنشئها بين المفردات بوسائل بيانية مختلفة تؤدي إلى ما يسمى بالصورة الفنية التي تستمد طاقتها الإيحائية وحقيقتها من تساميها وطرافة تراكيبها.
وفي تجربة الشعر الحديث
"رفض شعراء الحداثة استعارات الشعر القديم وتشبيهاته الجاهزة، لأن آلاف
الشعراء قد تداولوا هذه (العملة) حتى امّحت من كثرة الاستعمال، وانطفأ ايحاؤها،
فبحثوا عن صور جديدة نابعة من تجاربهم ومعاناتهم، ليست مجتلبة، وإنما هي ممتزجة
بالفكرة"[3].
وإذا كان الشاعر التقليدي قد خلق الصور الفنية الخاصة به التي عبرت عن تجاربه في
تآلف مع السياقات التي عاشها، فالشاعر الحديث اليوم رفض صور الطبيعة، وجعل للفكرة
أهمية كبرى، معتبرا الأشياء الواقعة بالنسبة له وسائل لتصوير الفكرة لا لتصوير
الطبيعة.
أما الصورة الشعرية في الشعر
الحديث، فقد حظيت باهتمام عديد من الشعراء، رافضين بذلك صور البلاغة القديمة
والعبارات العاطفية، "لأن التعبير عن الحالات المعقدة التي تلزمهم بها اللحظة
الحضارية بالقوالب اللغوية القديمة أو الصور المستهلكة إنما هو افتعال وابتعاد عن
الصدق النفسي والفني، مما دعاهم إلى إبداع الصورة الجديدة المعتمدة على الرمز والأسطورة، متأثرين في ذلك بالشعر
الغربي الحديث الغني بالصور والمعبر عن روح العصر، ومعتمدين على معطيات الحياة
الحديثة"[4].
ويعد بدر شاكر السياب
من رواد شعر التفعيلة الذين تفننوا في خلق صورهم الشعرية، وشحنها بالمواقف
والانفعالات، وتضمينها التجارب والمآسي
الصارخة، ورزايا الدهر وبلاياه، تعبيرا عن تجربة ذاتها وسمها الصدق، وجعلت من
المعاناة إبداعا قدارا على إثارة عواطف القارئ ومشاعره على نحو غريب.
اعتنى العرب باللغة أشد
عناية لما لها من دور في حسم العديد من المواقف، باعتبارها إحدى الأسس المتينة
للهوية، وآلية التعبير عما يخالج الذات من مواقف وانفعالات. ويزداد الوعي بأهمية
اللغة حينما تتم العودة إلى تاريخ النقد العربي، فنجد أن أهم القضايا النقدية التي
تطارحها النقد العربي القديم كانت تتصل، من قريب أو بعيد، باللغة. ويكفي دليلا أن
قضية اللفظ والمعنى جزء من الظاهرة اللغوية بشكل عام، والأكثر من كل هذا وذاك أن
وصل اهتمام العرب باللغة أن اعتمدوها أحد مقاييس تمييز جيد الكلام من رديئه.
وإذا عدنا للشعر العربي
القديم، نجده كان يلعب الأدوار كلها، ولذلك كان لزاما أن يتكئ على لغة راقية
ومؤثرة سواء للإقناع أو الإمتاع، فلا المستوى الجمالي الإبداعي كاف ليستحسن الشعر،
ولا المستوى الحجاجي. وحده تكامل هذين المستويين يحقق القدر المطلوب لاستحسان
الناس وتجويدهم له، ولذلك اتجهت جهود النقاد إلى مراقبة اشتغال اللغة في جنس مخصوص
هو الشعر الذي لم يتورعوا في اعتباره أرقى منزلة من النثر[5].
وجد الشاعر نفسه في
الشعر العربي الحديث أمام لغتين؛ الأولى تراثية مرتبطة بالشعر القديم، والثانية سهلة
قريبة من الحديث اليومي، وبتأثير من جهود المدرسة الرومانسية، استطاع الشاعر
الحديث أن يجد لنفسه لغة وسطا، بعيدة عن تقعر الفصحى وابتدال العامية. لغة تمكنه
من التعبير عن ذاته، وعن قضايا عصره في قالب حداثي يستوعب التحولات والقضايا
والتجارب والوجود.
وقد أسهم هذا التميز
للغة الشعر الجديث على لغة الشعر القديم في أن يخلق الشاعر لغة خاصة به، يتواصل من
خلالها مع جمهوره الخاص. ونحن "- نتيجة لرواسب تفكيرنا القديم - نستنكر
للوهلة الأولى أن تكون اللغة نابضة بروح العصر وشعرية في الوقت نفسه، ولكننا الآن
نقول إنها لا تكون لغة شعرية بحق إلا عندما تكون نابضة بروح العصر، وليس من اليسير
على الشاعر الذي تربى ذوقه على شعر عصر آخر له لغته الخاصة أن يقول الشعر بلغة
عصره، لأنه يحتاج في البداية إلى عملية تخل عن القوالب والصيغ التعبيرية القديمة،
لكي يستكشف القوالب والصيغ الجديدة التي تحمل نبض العصر أكثر من غيرها، وليست هذه
بالعملية الهينة لأن اكتشاف لغة جديدة للعصر هي بمثابة خلق لهذه اللغة"[6].
من هذا المنطلق تميزت
لغة الشعر الحديث عن لغة الشعر القديم، باعتبارها جزءا من الحياة تتطور بتطورها،
وتختلف مفرداتها حسب قضايا كل عصر واهتماماته. ومن تم تظل اللغة أوضح
وأقوى وأدل ظاهرة تتجمع فيها كل سمات الوجه الحضاري الذي تعيشه الأمة، وليس مبالغة
أن يقال: إذا أردت التعرف على الإطار الحضاري لشعب من الشعوب في زمن من الأزمان
فادرس لغته، ففي عروق اللغة يعيش نبض العصر، ولغة عصرنا تختلف بالتأكيد عن لغتنا
في أي عصر مضى، وهي لا تختلف عنها من حيث هي لغة مجردة، فما زالت عربيتنا الأدبية أو
الكتابية بعامة هي العربية الفصحى، وإنما تختلف من حيث علاقتها بظروفنا المعاشية
الراهنة، بأفكارنا وتصوراتنا وآرائنا بمشكلاتنا وقضايانا، وبكل ما يمثل الجوانب
الروحية والمادية في حياتنا، وكل هذا من شأنه أن يشكل اللغة تشكيلا جديدا يتناسب
وواقع هذه الحياة حتى يكون للشعر دور فعال في نفوس متلقيه[7].
وللغة في الشعر استعمال
خاص. لذلك تأثر شعراؤنا الجدد بجسارة ت.س.إليوت فأخذوا عنه في الشكل والمضمون،
وآمنوا معه بأن الشعر ليس له قاموس خاص به، فمفرداته قطع نقدية متداولة في عالم
الناس والواقع، وليست قطعا ذهبية مكنوزة
في بطون المعجمات والقواميس. وقد التقت روح "الأرض الخراب" في الشعر
الغربي بروح اليأس التي كادت تخنق أجيالنا المعاصرة إثر سيطرة الاستعمار بشكليه
القديم والحديث على الوطن العربي، ثم تقسيمه جغرافيا إلى مناطق نفوذ خاضعة له أو
متعاونة بأنظمتها القمعية[8].
وإن كانت اللغة الشعرية
لغة الناس، فإنها تختلف عن اللغة العادية وتتميز عنها بطبيعة ألفاظها وتراكيبها.
ما يصنع شعريتها ويجعلها مركزة ومكثفة وموحية، تختزل معان ذاتية ونفسية واجتماعية
عميقة. وبالتالي تغذو لغة الشعر لغة من طينة خاصة، لها مدلول ذهني شعوري وإيحائي
يتجاوز حدود اللفظ، ويتفتح على فهم وتأويل لا حدود لهما.
وإذا عدنا لتجربة شعر
التفعيلة وجدنا السياب يستمد ألفاظه من القاموس الكلاسيكي ومن الحياة المعاصرة،
وكانت مفرداته جديدة أكسبها تألقا وحرارة حين عبر عن المضامين الاجتماعية
والإنسانية. وأوتي، شأن كل شاعر عظيم، موهبة كبرى في اختيار اللفظة الدقيقة،
المعبرة والموحية، ذلك أن اللفظ في الشعر العظيم آلهة موحدة، تعتبر الإيمان
بالثنائية والترادف كفرا بحقها[9].
ولعل ما يميز الشعر عن
النظم وعن النثر الفني، لغته الموحية والمكثفة والمصورة، التي تستفز القارئ وتثير
انفعالاته، عبر ما يبنيه الشاعر من صور وعوالم عن طريق الإبداع الفني واللغوي، لأن
الشاعر خبير باختيار ألفاظه وتشكيل معانيها وصورها على نحو من الدقة المتناهية
لدرجة اعتقد فيها العرب قديما أن للشاعر شيطان يلهمه ويملي عليه الشعر.
وبالتالي يَصِير الشاعر
الجديد على حد تعبير أدونيس: "هو الفارس الذي ينتشل الكلمات، ينسلها كلمة
كلمة من نسيجها القديم ليخيطها كلمة كلمة في نسيج جديد. وهو إذ يفعل ذلك يفرغها من
شحنتها القديمة ومن دلالاتها وتداعياتها
ليملأها بشحنة جديدة، فهي مفاتيحنا إلى عالم الشعر، وعبثا نحاول الدخول إلى هذا
العالم قبل أن نمسك بمفاتيحه"[10].
[1] مصطفى ناصف،
الصورة الأدبية ، دار الأندلس
للنشر والتوزيع 1996 ،ص: 18.
[2] محمد غنيمي هلال،
دراسات
ونماذج في مذاهب الشعر ونقده، دار النهضة مصر للطبع، القاهرة، د.ت، ص:60.
[3] محمد عزام، بنية الشعر الجديد، دار الرشاد
الحديثة، د.ت: ص:61.
[4] نفسه، ص:64.
[5] ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر
وآدابه ، باب فضل الشعر، ج1، دار الجيل، بيروت، ط5 1981، ص: 19 وما بعدها.
[6] عزالدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر: قضاياه
وظواهره الفنية والمعنوية، دار الثقافة بيروت، د.ت، ص: 178.
[7] عز الدين اسماعيل، نفسه، ص: 174-175.
[8] محمد عزام، بنية الشعر الجديد، ص: 92.
[9] محمد عزام، نفسه، ص: 94.
[10] علي أحمد سعيد (أدونيس)، زمن الشعر، بيروت 1972، ص: 243-244.
إرسال تعليق