مقطع من رواية لن تنشر (المناسبة أحداث الفنيدق الأليمة) العنوان: ألبوم الثورة
عليّ، مدينة القصر الصغير، شمال المغرب،17 أكتوبر 2020
ها هو المركب المتجه إلى مدينة طريفة الإسبانية يمخر عباب البحر في إصرار منقطع النّظير، قادما إليها من منطقة بنيونش في مدينة القصر الصغير المغربية منذ سبع عشرة دقيقة، يترنح راقصا على أنغام موسيقى كلاسيكية رتيبة، أو لعلها تشبه تراتيل قداس يوم الأحد في الكنائس القديمة، رقصة بطيئة على صفحات البحر لا يدرك سحرها إلا من ذاق حلاوتها، حلاوة ممزوجة بالارتياب والخوف من المجهول القابع هناك خلف المياه العميقة المترامية الأطراف، وحيدا يلفّه الظّلام والبؤس من كل جهة كيتيم ألقي به في قارعة الطريق، وحيدا يشهد تفاصيل مرعبة لصراع سرمدي بين الليل والنهار بُعيد الفجر بقليل. لقد كانت الانطلاقة في الساعة الخامسة والربع صباحا، بعد أن انتظرنا في غابة بنيونش منذ منتصف الليل ساعة الصفر، لم أنم قط هذه الليلة، ولا أخالني سأنام على مركب يرتجف تحتنا باستمرار كما نرتجف فوقه، قاذفا الرعب في قلوب راكبيه دون أي إحساس بالرحمة أو الشفقة.
ابتل حذائي الرياضي وأطراف سروالي الجينز وأنا أهمّ بالصعود على متن المركب، تثاقلت خطايَ كمن يمشي في الوحل، يلسع برد الفجر جلدي فيستجيب بقشعريرة خفية وصوت اصطكاك الأسنان، ها قد اتخذ جسدي وضعه في الحيز الضيق الذي وجدته أمامي بسبب الاكتظاظ والتدافع والرفس، ليس سهلا أن تجد مكانا مريحا في اللامكان، ولا أعتقد أن على المركب المتهالك نقطة يتخذ فيها الجسد المثخن وضعية مريحة.
أمامي قرابة خمسين وجها شاحبا أتبيّنهم من انعكاس ضوء القمر البعيد على صفحة الماء، نحتتهم ظلال الليل فازدادوا شحوبا، أمعن النظر عَلّني أظفر بحكاية أو صورة مألوفة تبدد ظُلمتي وخوفي من انقلاب كومة الأخشاب المصفوفة التي تقلنا نحو الضفة الأخرى، صور فيلم التيتنيك تمر أمامي تباعا، أفكاري مشوشة، نسيت إن كنت أجيد السباحة أم لا، لا يهم، ما يهم الآن أن أواجه هذه الهواجس التي ما فتئت تفتك بي، أتملى الوجوه، جاهمة مكفهرة يعلوها صدأ غريب وغضب دفين، أناس يروي كل واحد منهم حكايات البؤس والطرد، لعل البحر الذي أودى بآلاف المهاجرين تحت جنح الظلام يرأف لحالنا، صعاليك العصر الجديد يتشبث بعضهم ببعض خوفا من وحش المحيط الذي يحمل رمحا من ثلاثة رؤوس، إنه يتحين الفرصة لينقض علينا في أي وقت وحين، لكن بوسيدون أنبل من أن يسلبنا حياتنا دون جريرة.
كلّ من على المركب جَاهمون يُخفون قساوة السنين وجورها، تلتقي نظراتنا الحزينة الخائفة لتشاح الأبصار نحو الأفق البعيد البعيد، نحو الجهة المقابلة من البحر، فتتيه في الظلام، هربا من لوم أو عتاب، أو ربما خشية أن تُكشف الأسرار، فلطالما باحت الأعين بمكنونات الصدور، أو ربما هربا من بشاعة ما تقع عليه العين فيؤذيها، مشاهد تُلقي في النفس رعبا على رعب، وتنقبض الأحشاء لتخيّم في سمائنا سحب سوداء داكنة، ربما يكون الأفق البعيد ملجأ للاختباء والتخفي من الماضي الذي يطاردنا بجيشه العرمرم دون هوادة، فقد يكون فيه ما يطرد كلّ هذا الغم المسيطر علينا منذ أن شغّل المهرّب الجاهم محرك المركب، ويخفف حملنا إلى حين. اه، الان عرفت أني كنت مخطئا عندما كنت أعتقد أن النصارى أكثر حمقا وهم يقتفون غروب الشمس وشروقها في الأماكن البعيدة.
ضمنا المركب بحنوّ كأم رؤوم، وسرى بين الجميع إحساس بقرابة خفية بدأت منذ بدء الخليقة، يتقاسمون رغيف خبز أسود، وقنينة ماء تبدو عليها الندوب من كثرة الاستعمال، لا يأكل الكبار ليضمنوا للصغار فرصة أخرى للنجاة، لعل هذا ما غنمناه بعد رحلة الهروب المحفوفة بالمخاطر.
تكبّلُ سُترات النجاة حركتهم وهم يهمّون بحركة يمينا أو يسارا، حركة مقرونة بصمت عميق يخترق الأعماق، صمت يخترقه صوت محرك المركب واصطدامه بالأمواج المتتابعة، قادمون نحو المجهول بمحض إرادتنا، لا أدري إن كنا قد أخطأنا الطريق، ولا أدري إن كنا سنصل إلى الضفة الأخرى سالمين كما نرجو، أطرد الخوف من الموت بالأماني، بل أستمهله ولا شيء غير ذلك، فما عاد وقت للتراجع الآن بعد أن قطعنا كل هذه المسافة عبر الأمواج المتلاطمة.
أنظر خلفي فأرى شاطئ مدينة القصر الصغير يبتعد شيئا فشيئا، أدركت حينها، وأنا عاجز عن بلع ريقي، أني أودع وطني وداعا مخزيا، ما هكذا أردت فراقه، ربما هذه آخر مرة أراه فيها يبتعد في الغلس، فقد عزمت، في قرارة نفسي، منذ أن اتخذت قرار الرحيل، ألا أعود إليه أبدا مهما كلفني الأمر إذا نجوت، يكفي أني تزودت من الماضي بذكريات مرعبة كافية للمستقبل، ذكريات أليمة تغنيني عن العودة أبد الدهر، وتجعلني أبتعد أكثر فأكثر كلّما فكرت في ذلك، كلما ابتعدنا ازداد إحساسي بالحرية والأمان، وكأنّي كنت مكبلا هناك، بل كأني كنت ميتا هناك، ما أبطأك أيها المركب اللعين؟ ألا تسرع قليلا؟
لا، لست بالحالم، أما آن لي أن أصدق هذا الوضع الجديد، مهاجر غير شرعي يتهادى به المركب، أجل هذه هي الحقيقة، يتعاظم خوفي عندما أدرك أننا مازلنا في المياه الإقليمية، قد يكشفنا ردار جبان، لنساق مثل البهائم إلى سجن الصومال...
إرسال تعليق