من المثاقفة إلى الدراسات عبر الحضارية
الدكتور عبدالحق وفاق – شاعر وناقد أدبي (المغرب)
ترجع أهمية المثاقفة إلى كونها تقدم زاوية رؤيتنا للآخر، فهي تفاعل بين الذات والآخر من أجل صياغة جديدة. وتعكس هذه الصياغة الجديدة الرؤيا الحضارية التطورية للعالم، بحيث تختزل واقع تعايش وتلاقح الثقافات المختلفة، وتقوم على أساس من الشراكة بين الأنا والآخر، بغية إنتاج معرفة موضوعية تهدف إلى الارتقاء بالإنسان وشروط حياته، وتفند الرؤية الاستعمارية القائلة بتحضير (الآخر المهمش) البدائي. ولأن المثاقفة أحد روافد الدراسات عبر الحضارية، فهي تعتمد آلية المقارنة باعتبارها منهجا يفتح آفاقا جديدة من الدراسات المقارنة.
هذا وإذا تأملنا مفاهيم
العولمة الأمريكية، نجد أن خطاب العولمة ليس خطابا سياسيا مجردا، ثم إن التطور من
الأدبي إلى عبر الحضاري، لم يكن من قبيل المصادفة، فكل هذه الحقول ليست جزرا
منفصلة عن بعضها البعض، وصيحة "ويلك"، وتراجعه عن ثورته في الأدب
المقارن، ثم خطاب "ريماك" وأتباعه وافتعالهم الأزمات حول الأدب المقارن،
ليس ببعيد عن السياسي بشكل من الأشكال[1].
ويضيف جمال التلاوي في
"المثاقفة: عبدالصبور وإليوت ...دراسة عبر حضارية" مشيرا أن تطور مفهوم
الأدب المقارن قد أفضى إلى تصور عنصري، حيث يرى المطورون أن المقارنة بين آداب
الأمم والحضارات المختلفة، يسوي بين هذه الأمم وتلك الحضارات، وبالتالي لا يستقيم
الأمر لدراسة نصين أحدهما ينتمي لدولة عظمى مثل أمريكا، بينما ينتمي الآخر لدولة من دول العالم الثالث، فشرط المقارنة أن
تتم بين الأدب الأمريكي والآداب الأوربية، أما آداب شعوب العالم الثالث، فلا تدخل
في إطار هذه المقارنات، وعليها أن تظل تابعة، متأثرة، بعيدة عن إطار المثاقفة.
لازم هذا التصور العنصري مفهوم العولمة، كما سعى
إلى التقليل من أهمية الدرس المقارن. إضافة إلى ذلك فتحديد الآداب التي يتم
مقارنتها ببعضها البعض يعمل على تضييق الحدود والآفاق أمام الدراسات المقارنة
الموضوعية. ولهذه الأسباب يمكن اعتبار المثاقفة حلا أقرب أن يكون موضوعيا، وكفيلا
بالخروج من أزمة الأدب المقارن، عبر الاستعانة بمفهوم الصورلوجيا، ودراسة
التشابهات والاختلافات بين الآداب والثقافات والحضارات بعيدا عن اللجوء إلى قواعد
التأثير والتأثر.
"ويعتبر مفهوما
"التأثير والتأثر"، حسب الاستخدام السائد في مجال الأدب المقارن، من
مفاهيم التي تفترض سبقا وعلوية غير قائمتين في الحقيقة. اللهم
"الامتثال" للخطة الإلحاقية لدول "المركز" الأورو أمريكي، ذلك
إذا اعتبرنا أن لكل جماعة بشرية ظرفها التاريخي-الاجتماعي الخاص، ومعطياتها
"الزمكانية" الخاصة، التي توجه مسار تطورها وتطرح أولوياتها وتفضيلاتها
الثقافية. وبناء على هذا، فمن الممكن أن تتعدد المسارات ولا تتناقض، ويمكن أن
تتكامل ولا تتقاطع. فليس هناك أدب أفضل من أدب آخر، ولا ثقافة أرقى من ثقافة أخرى،
تأسيسا على فكرة عدم وجود عرق أرقى من عرق آخر. وإلا فسنجد أنفسنا في دائرة الخطاب
العنصري وخطاب كراهة النوع. وإنما هناك حضارة إنسانية وأدب إنساني متكامل ساهمت في
تطوره جميع الشعوب، بدون استثناء، في مراحل المثاقفة التاريخية المتعاقبة.
ولعل المثاقفة هي البديل الممكن للمفاهيم والخطابات المذكورة، والذي يمكن أن
يتعداها ليشمل أنماطا أخرى من التفاعل والتبادل الإنساني الثقافي.
ويفترض هذا المفهوم في
بعض تعريفاته المساواة في الفاعلية والتفاعل بين جميع الثقافات والآداب، على
اختلاف سياقاتها التاريخية -الاجتماعية، كما يتأسس على أن اختلاف سماتها الثقافية
ومظاهر اسهامها الفكري والجمالي لا يبرر بأي حال القول بأن إحداها سابق، بينما
الأخرى مجرد لاحق. ومن هنا نستطيع أن نرتب على ذلك أن ما يمكن أن يدور بينها من
تبادل ثقافي – أدبى إنما هو من قبيل التفاعل الثقافي أو "المثاقفة".
وهذا المصطلح ليس
غريبا، على أية حال، عن حقل المقارنة، "فجوهر المثاقفة هو المقارنة"،
فيما يقول عزالدين المناصرة[2].
وقد عرف قاموس المورد (انجليزى–عربى) مفهوم التثاقف Acculturation بأنه: "تبادل
ثقافي بين شعوب مختلفة، وبخاصة تعديلات تطرأ على ثقافة بدائية نتيجة لاحتكاكها
بمجتمع أكثر تقدما"[3].
إن المثاقفة بهذا
المعنى لا تفترض إلغاء شروط التأثير والتأثر، لكنها لا تقف أمامها كشرط أساسي في
الدراسة. وبالتالي فالدراسة المقارنة بين عملين أو أكثر، بينهما أو بين كاتبيهما
تأثير وتأثر، وإذا لم يتوفر هذا الشرط،
يمكن أيضا إجراء التحليل المقارن في إطار ما هو ثقافي وكوني مشترك بين الإنسانية
جمعاء. ومن تم تفتح المقارنة آفاقا غير محدودة ولا نهائية. هذا ويطرح فعل التثاقف
بين الآداب فرصة لإمكانية التأثير سواء كان هذا التثاقف قصديا أو غير قصدي دون وعي
من طرف الكاتب، كما يصبح المقارن بمقدوره أن يقارن بين هذه الآداب، ويعمل على
تحليلها وتفسيرها مستحضرا السياقات الحضارية والثقافية التي ترتبط بنتائج البحث
والدراسة.
إرسال تعليق