تحليل قصيدة (سَفَر) لعبدالمعطي حجازي – تجديد الرؤيا
عرف الشعر العربي الحديث تحولا كبيرا، حيث لم يقف هذا التطور عند ما قام به شعراء تكسير البنية على مستوى الشكل، بل واصل حركيته ليثمر ما سمي بشعر الرؤيا، الذي ركز على المضمون وشكل موقفا جديدا من العالم والأشياء، إلى حد صار فيه شعر الحداثة رؤيا عند شعرائه؛ أي أنها التقاط شعري وجداني للعالم يتجاوز الظاهر إلى الباطن، و يتجاوز حدود العقل وحدود الذاكرة والحس ليخلق عوالم جديدة تنصهر فيها تجربة الشاعر باعتباره مبدعا والمتلقي باعتباره مشاركا له في تجربته. وقد برع شعراء كثر في هذه المدرسة الشعرية نذكر منهم: عبد الوهّاب البيَّاتي، وأدونيس ، ويوسف الخال، وأمل دُنقل، ومحمد بنيس وعبد المعطي حجازي الذي يعد من رواد قصيدة الرؤيا.
يتألف
عنوان القصيدة من الناحية التركيبية من لفظ واحد مفرد وقد جاء نكرة، فهو خبر
لمبتدأ محذوف تقديره هذا أو الحياة، ومن الناحية الدلالية يحيل السفر على دلالات
متعددة، فهو حركة في الزمان والمكان، ويتم إما بشكل واقعي أو خيالي؛ حيث يتنقل
المسافر عبر أزمنة وأمكنة حقيقة أو متخيلة.
فما هي أهم الخصائص الفنية والأسلوبية والإيقاعية التي
اعتمدها الشاعر؟ وإلى أي حد تمكن الشاعر من تمثيل هذه الحركة شكلا ومضمونا؟
يظهر
من خلال القراءة المتأنية للقصيدة أن الشاعر في رحلة وهمية عبر الزمان والمكان من
المدينة إلى القرية، يعبر فيها عن الركود والجمود الذي أصبح يطبع الأمكنة.
ولإبراز
هذه المضامين استعان الشاعر بمعجم يتوزع إلى ثلاثة حقول دلالية:
الأول حقل دال على السفر:( مسافات، سفر، جسور، متسع لمرور الرياح، ينفذ
الضوء...)؛ والثاني حقل دال على الطبيعة:( خضرة السهل، لون الشجر، بحر،
وجه القمر، عبث الليل، العشب، الرياح، ورق الشجيرات...)؛ والثالث حقل دال على
المكان: (السهل، البحر، المدن، الأرصفة، المقابر، المدافن، البيوت...). ويظهر من
خلال ذلك وجود علاقة ترابط وتكامل، حيث تتكامل الحقول الدلالية الثلاث
للتعبير عن رؤيا الشاعر، فسفره كان عبر الزمان والمكان الذي خلف داخله أزمة نفسية
أدت إلى الإحساس بالغربة في المدينة والقرية والوطن، والطبيعة تمثل حنين الشاعر
للحياة الريفية التي تغذي مخيلته، في حين أن الأمكنة تمثل عناصر الصراع التي
تتجاذبه وتعمق أزمته بين ما تحفل به المدن والقرى من ذكريات، إذ اقترن ذكر القرية
بالمقابر للدلالة عن أنها أصبحت مهجورة لا يعود إليها الإنسان إلا بعد أن تستنزفه
حياة المدينة فيعود إلى القرية.
أما
فيما يخص الجانب الإيقاعي، فقد عمل الشاعر من ناحية الإيقاع الخارجي على تكسير
نظام البيت وأقام مقامه السطر الشعري الذي يتفاوت طوله تبعا لحالته الانفعالية،
كما لجأ إلى تنويع الروي والقافية؛ إذ يأتي الروي مرة مقيدا (الشجرْ - القمرْ -
سفرْ) ومرة أخرى مطلقا ( المقابرِ - النهرِ)، كما وظف الشاعر وحدة التفعيلة
باعتماد بحر المتدارك (فاعلن × 4) مع التنويع في التفعيلة باستعمال زحاف الخبن
(فِعْلُنْ)، ما منح القصيدة إيقاعا بطيئا يتناسب وحالة الشاعر النفسية.
وارتكز
الإيقاع الداخلي للقصيدة على تكرار الأصوات (الراء والتاء واللام) وأصوات المد
(بيننا تتوارى، الصبا)، وتكرار الألفاظ (بحر، مدن، القرى...)، والتوازي التركيبي
غير التام في السطرين الأخيرين (يا أيهذا الجمال الذي ظل محتفظا بالصبا، أيهذا
الجمال الذي ظل محتميا بالحجرْ)، ما يفيد هيمنة وحدة التجربة على امتداد النص،
وتشكل بؤرة الصراع النفسي للشاعر.
وإذا
انتقلنا إلى الناحية الفنية نجد القصيدة برمتها صورة كلية تعكس رؤيا الشاعر، ويتم
بناؤها تدريجيا تتظافر من خلالها مدركات حسية وشعورية لتنقل صورة إنسان مسافر
تتداخل الأزمنة والأمكنة في سفره مما يعمق لدية الإحساس بالقلق والغربة، والحنين
بين المدينة والقرية يظهر بشكل جلي من خلال اللغة التي وظفها الشاعر، والتي تختلف
عن الإحيائية التقليدية واللغة الرومانسية؛ إذ تتميز بشعريتها القائمة على
الانزياحات المتعددة، فقد نقل الشاعر الكلمات من دلالتها الحرفية إلى دلالات رمزية
وخرق المألوف في اللغة الاعتيادية حيث تفقد الألفاظ دلالتها المعجمية وتكتب دلالات
رمزية وإحيائية مثل لفظة الجمال الواردة في السطرين (30و31)، التي تحمل قيمة خالدة
تحتفظ بشبابها وحيويتها الأبدية، ويرمز بها الشاعر للوطن الذي يبقى الإنسان مفتونا
به، و(طير السماواتِ - ينقص وجه القمرْ - أرصفة للصدى المعدني
- بينهما شهوة غير مرئيةٍ).
أما
الأساليب فلاحظ هيمنة الأسلوب الخبري على القصيدة وتعكس هذه الهيمنة رغبة الشاعر
في التعبير عن رؤياه والكشف عن علاقته بالزمان والمكان معتمدا الجمل الإسمية
الدالة على الثبات والسكون، الذي يميز الوصف في القصيدة، ويلجأ الشاعر أحيانا إلى
الأسلوب الإنشائي خاصة الإستفهام (أفي الليل، أم في النهارِ، تري، كان هذا
السفرْ؟)، والنداء(يا أيهذا الجمال الذي ظل محتفظا بالصبا).
مثلت
هذه القصيدة نموذجا لخطاب تجديد الرؤيا مضمونا وشكلا، فمن ناحية المضمون تضمنت
معاني جديدة ارتبطت بالصراع النفسي الذي عاشه الشاعر بين الحزن والألم لبعده عن
وطنه. ومن حيث الشكل انزاحت القصيدة عن النمط الشعري القديم، فاعتمدت نظام السطر
الشعري، مع تفاوت الأسطر طولا وقصرا. ونوعت في الروي والقافية، كما انبنت على نظام
المقاطع، بالإضافة إلى توظيف الرمز كوسيلة تعبيرية يبلغ بها الشاعر رؤياه فيما يخص
واقعه.
راائعع❤️❤️
ردحذفيحتاج المزيد من التعديل
ردحذف