أدونيس: الشعر الجديد
مرت القصيدة العربية بمراحل تطور متنوعة، حيث لم يتوقف خط هذا التطور عند كل
ما رسمته حركية الشعر الرومانسي، بل إنه استمر في التغيير والتحول استجابة لتحولات
المجتمع وتفاعلاته، ولذلك كان من الضروري بروز خطاب جديد كون رؤيا جديدة للشعر
والأدب، وهو ما يطلق عليه تجديد الرؤيا. فقد كانت السمة المشتركة بين شعرائه هي
المعاصرة والتحديث من أجل الاستجابة لدواعي العصر ومقتضيات التطور، والتعبير عن
الرغبة في أن يعيش الشاعر عصره لا عصور من سبقه، ولذلك عملوا على تطوير بنية القصيدة
العربية بالدعوة إلى ابتكار أشكال جديدة وعدم التقيد بالشروط الصارمة للقصيدة
العمودية والانزياح عن المعجم التراثي وجعل الصورة الشعرية أكثر تحررا، والخروج عن
هيكل الشعر وبنائه، وتحريره من سيطرة الأوزان، برزت هذه الحركة خلال الستينيات مع
صلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي وعبد المعطي حجازي ويوسف الخال وأدونيس ومحمد
بنيس ومحمد السرغيني ومحمد الخمار الكنوني وعبد الرفيع الجواهري وعبد الله راجع
وغيرهم. ومن بين النقاد الذين اهتموا بهذه الدراسات أدونيس.
يقدم الناقد
في بداية النص وخصوصا الجملة الأولى تعريفا للشعر الجديد بكونه رؤيا، وانطلاقا من
ذلك ودراسة العنوان وبعض المشيرات الأخرى مثل "الرؤيا، تمرد
على الأشكال القديمة، ثورة على اللغة" نفترض أن النص دراسة نقدية، وأن الكاتب
سيعالج فيه قضية شعرية تتعلق بخصائص اتجاه تجديد الرؤيا وتجاوزه للشعر القديم.
فما
القضية التي يعالجها الكاتب في نصه؟ وما طرائق عرضها؟ وإلى أي حد
استطاع تقديم تصور نظري عن هذا الاتجاه؟
يعالج
النص إشكالية الشعر الجديد، من خلال إبراز مميزاته وخصوصياته، التي ينفرد بها عن
الشعر القديم. فقد انطلق أدونيس في بداية النص من تصور نظري عن الشعر الجديد،
معتبرا إياه رؤيا تقفز بالشاعر خارج المفاهيم السائدة، وتجعل منه متفردا ومتميزا
في الخلق والإبداع. ثم انتقل إلى تحديد خصائص ومهام هذا الشعر، المتمثلة في
انتقاله من التقليدية نحو كشف خفايا العالم وخباياه، اعتمادا على لغة الخرق وأسلوب
التداعيات، والتعبير الدائم عن قلق الإنسان.
كما
نجد هيمنة المصطلحات والمفاهيم النقدية، مثل (رؤيا، قفزة، تجاوز، تخط، مغنى خلاق
توليدي، كشف. سردي، وصفي، تقليدي، يقوم على شروط شكلية، الأشكال، الوظائف...)، وقد
وظف الكاتب هذه المفاهيم في سياق حديثه عن طبيعة الشعر الجديد والمهام التي يقزم
بها ارتباطا بالظروف التي ظهر فيها، وارتباطا بالطبيعة المتفردة والمتميزة للشاعر
الجديد والمرتبطة بقضايا الإنسان ومشاكله.
وقد
اعتمد الكاتب طريقة استنباطية لعرض أفكار النص، وانطلق من العام إلى الخاص، حيث
استهل النص بتعريف الشعر الجديد بكونه رؤيا، وذلك من أجل إبراز خصائص
الشعر الرؤياوي ومقارنتها مع الطبيعة الوصفية السردية والشكلية للشعر التقليدي
ليستنتج من ذلك أن الشعر الجديد تجاوز التقليد؛ إذ يبدعه شاعر متفرد متميز له
انشغالاته الخاصة ومرتبط بواقع حضارته وأمته، أما الخاص فهو ما تطرق إليه الكاتب
كخلاصة في نهاية النص وتتعلق بالطبيعة الغامضة والمترددة للشعر الجديد التي تجعله
دائم الحاجة إلى المزيد من الحرية، خاصة فيما يتعلق باللغة التي تميل إلى الخروج
عن المألوف.
وإن
من أهم خصائص هذا النص اللغوية هي اعتماده على لغة تقريرية تميزت بوضوح العبارة
وبساطة التعبير التي تؤدي إلى سهولة الفهم، والقدرة على إيصال أفكار النص إلى ذهن
المتلقي بشكل كاف حتى يسهل إقناعه بها. وهذا ما يجعل لغة النص حجاجية تهيمن عليها
الجمل الخبرية المختلفة من حيث الطول والقصر، والتي تقوم بوظيفة نقل الأفكار
والمعلومات.
أما
على مستوى الأساليب الحجاجية نلاحظ أن أهم وسيلة استدلالية وظفها أدونيس في هذا
النص هي التعريف، فقد عرف الشعر الجديد بأنه (رؤيا ...قفزة خارج المفهومات
السائدة...)، كما انطلق من هذين التعريفين ليعقد مقارنة بين الشعر الجديد والشعر
القديم ( يتخلى الشعر الجديد عن الرؤية الأفقية... والقديم...)، إضافة
إلى الشرح والتفسير للمفاهيم والمهام المرتبطة بالشعر والشاعر الجديد مثل (الخروج
من التقليدية...)، كما اعتمد أدوات التوكيد (أنه رؤيا، فإن من خصائصه...) وحروف
العطف (الواو، اللام، الفاء...). علاوة على الوسائل الحجاجية الأخرى مثل اعتماد
الكاتب على التسلسل المنطقي للأفكار. وهذه الوسائل الحجاجية غايتها إيصال الأفكار
إلى ذهن المتلقي واضحة ومفهومة حتى يسهل عليه فهمها واستيعابها، ومن تم الاقتناع
بها .
بناء
على ما سبق يتبين أن أدونيس حاول أن يعرف تجربة شعر الرؤيا وخصائصه، وإبراز ما
يميزه عن الشعر القديم، وذلك بالتركيز على قضايا الشكل والتعبير. مستعينا بعدة
أساليب حجاجية ولغوية، ومعتمدا بناء منهجيا محكما.
لذلك
يمكن القول أن أدونيس استطاع أن يعرف بهذه التجربة ويبين خصائصها المميزة ويدافع
عنها، باعتباره أحد روادها.
إرسال تعليق