الحَـداثــة بَين وَهْمِ الرُّؤى وَتَغَـامُـضِ المَفهُـوم
الدكتور عبدالحق وفاق – شاعر وناقد أدبي (المغرب)
شَهِد المُجتمع الثقافي في العَصر الحديث الكثير من المفاهيم الفلسفية التي أنتجتها الأنساق الفكرية الغَربية، والتي كان لها كبيرُ الأثر في البنيات الثقافية العربية المُعاصرة، وفي تَشكّل المفاهيم المعرفية في خطابنا الأدبي والاجتماعي والفني والفلسفي والسياسي والديني. ومن أبرز هذه المفاهيم "الحداثة" التي لم تُدرِك بعد طابعها المفهومي، بالرغم من تَطور الحقول اللغوية والمُصطلحية والفلسفية الأدبية. ما يجعل منها مفهوما مَسجورا بالغموض، زِئبقيّ الدلالة، منفلت الحَدِّ. يَجنَح تارة إلى الثورة والقَطيعة مع التراث ماضيه وحاضره لأجل خلقِ تراثٍ جديد.(1)
يأخُذ
مفهوم الحداثة مكانه اليوم في حقل المفاهيم الغامِضة، وإذا كان هذا المفهوم يعاني
من غُموض كبير في بنية الفكر الغربي الذي أنجبَه، فإن هذا الغُموضَ يشتَدّ في
دائِرة ثقافتنا العربية ويأخذ مداه (2). إذ الحداثة تدخل ضمن
المفاهيم المستعصية على التعريف والتحديد، الرافضة لكل ثبات، والمصنفة بعدم
القابلية والقدرة على قبضِ مفهومٍ جاهزٍ لها.(3) ومن الباحثين
أيضا من يعتبرها إبداعا وخروجا على ما سلف، فهي تحول جديد وحِيّادٌ عن
الزمن وتجاوز للقدامة.(4)
الكلام
في هذا البابِ كثيرٌ ومتشعّبٌ، ليس هدفنا استقصَاؤه وجمعُه. إنما المقصود أنْ نشير
إلى غرابة هذا المفهوم وهُلاميته، بحيث يكاد لا يستقر على صورة تداوليّة مفهومية
واحدة في السياق، الذي توجهّه إيديولوجيات داخلية، ترسُم مَساره الأعزَل أحيانا،
فيصِير أكثَر تَفلُّتًا، وأشدّ تغامُضًا.
والحقيقة
أن لهذا الغُموض أو التغامض الذي أشَرنا إليه أسبَاب عديدة، نورِدها من خلال
عامِلين:
الأول،
أن الحداثة في أصلِها كانت حدثاً تاريخياً، وحالة اجتماعية سبقت ظهور المفهوم،
فمُؤرّخوا الحداثة يجعلون عَصْرَ النَّهضة في القرن السادس عشر هو انبثاقُ فَجْرِ
الحداثة، وعلى وجهِ الخُصوص مع ديكارت وبيكون، والصراع الذي نَشَبَ في فرنسا بين
أنصارِ القديم وأنصارِ الحديث، ليتجذر أكثرَ بتجذر العقلانية في الفكر الأوربي مع
فلاسفة عصر التنوير.
الثاني،
أنَّ الجو الفلسفي الذي جرى فيه تحديد مفهوم الحداثة (بدايات منتصف القرن الماضي)؛
كان متأثراً بالنزعة العَدمِية والشكِّية المُنتشِرة في أوروبا حينذاك إضافةً إلى
ظُهُور المناهِج النقدية والتحليلية مع علم اللسانيات الحديثة، وانبثاق البنيوية
والسيميولوجيا والهيرمينوطيقا، هذا الجو بمفرزاته الفكرية كان سبباً في
انتشار ووفرة المصطلحات الفلسفية المُعاصِرة، مما أدى إلى غموض مضامينها ، وصعوبة
الإمساك بها.
هذا اللاتحديد المفهومي،
لا يعفِي الباحِثين والمُهتَمّين من محاولات تعريف الحداثة ورسم أوسامِها،
وتَبيانِ حُدُودِها، ونجد هذه المحاولات مع تعددها وكثرتها ترجع إلى بُعْدين
أساسين:
بُعْد تاريخي، يرى الباحث
فيه، أن الحداثة حقبة تاريخية متواصلة تمتد على مدى خمسة قرون ، بدءاً من القرن
السادس عشر بفضل حركة النهضة وحركة الإصلاح الديني ، ثم حركة الأنوار والثورة
الفرنسية ، تليهما الثورة الصناعية ، فالثورة التقنية ، ثم ثورة المعلومات (5)
.
بُعْد فلسفِي، يعتبر فيه
الباحِث الحداثة مَجمُوعَة من العمليّات التراكُمية التي تطوِّر المجتمع بتطوير
اقتصاده وأنماط حياتِه وتفكيرِه وتعبيراته المتنوعة (6). عبر هذا،
يَتبَيّن أن الحداثة إذن، ليست عملية محددة تنبثق دفعة واحدة وإنما عمليات تراكمية
متتالية، يحكُمها الزّمن واللازَمن، المكان واللامكان ... كما أنها نمط من التمدن
والتحضر في الدولة الحديثة عبر ارتياد الفُنون والتقنياتِ، والعاداتِ والأفكارؤ
الحديثة، وبالتالي فهي سُلوك يُمارَس في الحياة اليومية، وثقافة لها معالمها
ومنطقها الضدي، الذي هو عكس القديم والتقليدي من جهة، ومكمِّل له من جهة أخرى،
يقول بالإبداع والابتكار والتجديد في مختلف مناحي حياة الإنسان الاجتماعية
والفكرية والفنية.
لهذا
فإن ظهور الحداثة الأوربية، قامت على أساس أن العالم الحسي يحـوي داخلـه ما يكفي
لتفسيره، وأن عقــل الإنسـان قـادر على الوصـول إلى المعرفـة التي تنيـر له كـل
شيء، ويستطيع أن يفـهم واقعه وذاته ويولِّد منظومات أخلاقه دون الحاجة إلى معرفة
تأتيه من غير العالم الحسي"(7).
يتطلب فَهم هذا التداخل
والتخارج الذي يَسِمُ تحديد الطابع المفهومي للحداثة، الوعي الكامل بالسياقات
الخارجية والداخلية والبينية، التي تجعل الحداثة مفهوما مسجورا بالأوهام، والتي
يحددها أدونيس في الزمنية والمُغايرة والمماثلة.
إن من يربط الحداثة
بالزمن، تلك نظرة شكلية تجريدية، تؤكد على السطح لا العمق، لأن من الحداثة ما يكون
ضد الزمن، كلحظة راهنة ومنها ما يستبقه، ومنها ما يتجاوزه أيضا.. أما الوهم الثاني
فهو المُغايرة مع القديم، وشأنه شأن سطحية الزمنية، إذ يُحَول الإبداع إلى لعبة
التضاد .. وترتبط المماثلة بمعيارية المطابقة مع الغرب، إذ لا حداثة خارج المماثلة
معهم (8).
ومهما قِيلَ في الحداثَة،
فإنها مفهوم باتَ يفرِض نفسَه أكثرَ في الآونة الأخيرة، سِيَما مع المَدِّ
العَوْلميِّ الجَديد الذي يحمِلُ إلينا رُذاذا من الضّفة الأُخرى ليس كلّه عَذبٌ
زُلال. يَتطلبُ مِنا حقيقة تموضُعا مَعقُولا إزاء المتغيراتِ الجديدة، وإزاء
الحياة ككل، نُعيدُ من خِلاله تمحيصَ تصوراتنا وإخضاعَ أفكارنا للسؤال
ومُيُولاتِنا للإبداع والابتكار، دونَ أن نُفتَنَ بالزَّيِّ الجديد للحداثة، وأن
نُسائِل دوما ما وَراء الأشكالِ البارِقة، ودون أن نتقاعَسَ أيضًا إلى الأفكار
البالية، ونُغلِقَ عليها منافِذ الابتكار والإبداعية والجِدّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1) محمد عابد الجابري، حوار المشرق والمغرب، دار توبقال
للنشر، الدار البيضاء 1990، ص:68.
(2) علي وطفة، مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة،
مجلة فكر ونقد، العدد35، ص:63.
(3) رضوان زيادة، صدى الحداثة - ما بعد الحداثة في زمنها
القادم، المركز الثقافي العربي، بيروت 2003، ص:17.
(4) يوسف الخال، الحداثة في الشعر، دار الطليعة، بيروت،
الطبعة الأولى 1978، ص: 13
(5) طه عبد الرحمن، روح الحداثة، المركز الثقافي العربي،
الدار البيضاء 2006، الطبعة الأولى، ص:23.
(6) فتحي التركي، فلسفة الحداثة، منشورات الإنماء القومي،
الطبعة الأولى 1992 ص:25.
(7) عبد الوهاب المسيري، الحداثة وما بعد الحداثة، سلسلة حوارات
لقرن جديد، دار الفكر، دمشق، ص18.
(8) علي أحمد سعيد أدونيس، بيان الحداثة، مجلة مواقف، العدد
36، ص:135
إرسال تعليق