الإنسان والإيقاع
ارتبط الانسان العربي منذ القدم بالموسيقى والغناء، وذلك لما أحسه من جاذبية قوية تكاد تكون سحرية، تجذبه نحو الموسيقى وتنغيماتها، إذ كان يرى فيها التعبير الصادق عن عواطفه وانفعالاته وهواجسه النفسية، ونظرته إلى الحياة والطبيعة والكون. خاصة أمام هذه التلوينات الموسيقية المتعددة التي تسعى إلى ترجمة الإحساس والنظرة إلى الحياة في شتى جوانبها التي تبعث على الحزن والأمل واليأس والحب...
ولعل ما يفسر
هذا الارتباط الوجداني للذات بالموسيقى، هو كونها تشكل تعبيرا حسيا عاطفيا
ووجدانيا عن الذات الانسانية التي تنقاد إلى كل ما هو حسي وعاطفي تعبيري، يحاكي
الطبيعة ويترجم الخلجات النفسية للذات إزاء العالم.
ونتيجة
لهذا الاهتمام المتواصل، تطورت علاقة الإنسان بالموسيقى والإيقاع، فلم يجد أفضل من
الشعر لترجمة هذه العواطف والاختلاجات النفسية العميقة. الأمر الذي جعل من الشعر
العربي مرتعا خصبا للتلوينات الموسيقية والتنغيمية والإيقاعية، فصار الإيقاع،
بذلك، يكتسي أهمية قصوى في الشعر العربي إلى درجة أن بعض الدارسين اعتبروه شرطا
ضروريا لدخول نص ما منطقة الشعر[1] .
وذلك
لما يخضع له النص الشعري من قوانين وضوابط إيقاعية جوهرية، تضمن له توازنه الصوتي
الموسيقي من خلال مجموع الخيوط التي تشد النص الشعري وتضمن تماسكه وانسجامه، وتنسج
شبكة من العلاقات التنغيمية الموسيقية، والأخرى الفنية الدلالية التي تسعى إلى
الحفاظ على وحدة النص الشعري العضوية التي لا تقبل التفكيك.
احتواء لكم
الانفعالات والمشاعر والأحاسيس الانسانية، عرف الشعر العربي -قديمه وحديثه- غزارة
في الأوزان والتنويعات الموسيقية والإيقاعية. يقول الدكتور محمد عبدالعزيز الدباغ
:"...ومن هنا يظهر أن تعدد الأوزان لم يكن في الشعر العربي عبثا، بل كان
راجعا إلى تعدد الانفعالات واختلاف الدوافع التي تدفع بالإنسان إلى التعبير
والتصوير"[2].
هكذا إذن لم تكن هذه
التلوينات الموسيقية في الشعر العربي من عبث، وإنما كانت لِتُراعي
الانفعالات والعواطف الباطنية التي تَجِيشُ بالذات الإنسانية التواقة إلى التعبير
عن خوالجها وخواطرها.
وحول هذه الأهمية الكبرى التي
يكتسيها الإيقاع في الشعر العربي، يقول الدكتور طه حسين رحمه الله : "إن
أدبنا العربي لا يهمل الأسماع إهمالا قليلا أو كثيرا وإنما يعتني بها أشَدّ
العناية، فهو أدب منطوق مسموع قبل أن يكون أدباً مكتوباً مقروءاً وهو من أجل هذا
حريص على أن يلذ اللسان حين ينطق به، ويلذ الأذن حين تسمع له ثم يلذ بعد ذلك
النفوس والأفئدة حين تصغي إليه"[3].
إنَّ ارتباطَ الشعر العربي بالغناء
والموسيقى والتَّلحين أمرٌ شَكَّل فيه الإيقاع جوهر الشعر وكُنْهِه، بحيث كان
العرب يَتَغنَّون بالشعر، ويبدعون في أدائه وترديده وحفظه.
يقول حسان بن ثابث:
تَغَنَّ فِي
كُلِّ شِعْرٍ أَنْتَ قَائِلُهُ إِنَّ الغِنَاءَ لِهَذَا
الشِّعْر مِضْمَارُ
وبذلك كان الشعر عند العرب مَرتعًا
للتَّشكيلات الإيقاعية والموسيقية، التي تلذ الذوق، ويطرب لها السمع. الأمر الذي
ساعد الناس على حفظ هذه الأشعار وروايتها، لأنها كانت تجمع بين العبارة البليغة
والموسيقى العذبة، التي تترسخ في الأذهان بسهولة ويسر. لأن الشعر جمعت بينه وبين
الموسيقى علاقة قرابة منذ القدم، فكلاهما فن سمعي يعتمدان على الأداء الصوتي وإن
اختلفت لغاتهما على الأداء فجوهرهما واحد، ولذلك كانا يتحدان و يكملا بعضهما
البعض، فالشاعر ينظم والموسيقار يلحن [4].
واهتماما بأمر ارتباط
الشعر بالغناء، صار الغناء ميزانا للشعر، ومرادفا له في البيئة العربية خلال مختلف
العصور التي مرَّ بها الشعر العربي منذ تاريخ ما قبل الإسلام، حيث كان الشعر
العربي آنذاك ديوان العرب، ومنتهى علمهم، به يفتخرون ويدافعون عن قبائلهم
وهُوِّياتهم، إذ كانت للشعر كلمة لا تعلوها ولا تضاهيها أخرى، بها تهدأ الأوضاع،
وبها تُشَنُّ النزاعات بين القبائل.
جاء في البيان والتبيين للجاحظ حول
ارتباط الشعر العربي قديما بالغناء والإنشاد : "...ولعل أشهرهم
المهلهل(ت94ق.ه/531م). وعلقمة الفحل(ت20ق.ه/603م). والأعشى صناجة
العرب(ت7ق.ه/628م). وكان من الشعراء من يُنشد الشعر قاعدا ومنهم من ينشده واقفا،
كما أن من طقوس إنشاد الشعر اللباس، والعناية به..."[5].
إلى هنا يتضح جَلِيا مدى
الاهتمام الكبير للعرب قديما بالشعر وإنشاده وترديده، وذلك لكون العرب أنداك لم
يكن لهم علم أفضل من الشعر.
وقد تواصل هذا الاهتمام بالشعر
في عصرنا هذا، رغم ظهور بعض الأشكال الجديدة التي قد تتحرر من بنود الشعر التي
وضعها الخليل بن أحمد كمقومات للقصيدة الكلاسيكية . إلا أن هذه البوادر الجديدة لم
تعلن الثورة إلى حد كبير، فقد تنفست الحداثة، وعمدت إلى التجديد والخلق والابتكار،
دون أن تتنازل عن المكونات الموسيقية والإيقاعية التي تعتبر جوهر الشعر ولبه،
والتي تكسبه اللحن والعذوبة ، بفضل ما يخضع له من ضوابط إيقاعية وموازنات صوتية
وموسيقية ساعدت على تلحينه والترنم به، وإخراجه منظما ومقطعا تقطيعا صوتيا دقيقا،
بما في ذلك التفعيلة والسجع والترصيع والتكرار، وهو ما بعث الموسيقى في جذر الكلمة
الشعرية، وفي علاقتها الجرسية بغيرها من الألفاظ التي كانت تقتحم الأسماع، وتملأ
فم منشديها، فتميل إليها القلوب [6].
[1] محمد العمري مسالة الإيقاع في الشعر الحديث، مجلة فكر ونقد،
ص:55.
[2] تيسير علم العروض والقوافي .ص: 11.
[3] نقلا عن محمد بن عبد العزيز الدباغ في كتابه: تيسير علم العروض
والقوافي. ص:12.
[4] نافع عبدالفتاح صالح، نقلا عن عبد اللطيف الوراري ، نقد الشعر: في
مفهوم الإيقاع وتعبيراته الجمالية وآليات تلقيه عند العرب، ص:137.
[5] نفسه، ص:33.
[6] عبداللطيف الواري، نفس المرجع، ص:34.
إرسال تعليق