U3F1ZWV6ZTQ4NTIyNzU1MDcxNzM5X0ZyZWUzMDYxMjM0OTcwMzc1MQ==
اِبحث داخل الموقع !

شِعرية الذات العاشِقة بينَ البوح والانشِطار في ديوان (أناديك قبل الكلام) لإبراهيم قهوايجي

 عبدالحق وفاق يكتب: شِعرية الذات العاشِقة بينَ البوح والانشِطار في ديوان (أناديك قبل الكلام) لإبراهيم قهوايجي




يُطلق مفهومُ الكلامِ عند النحاةِ العرب على كل لفظٍ مفيدٍ، أما النداء، فيُفيد الطلبُ والاستدعاءُ. وعندما تأملنا ديوان "أناديك قبل الكلام" لابراهيم قهوايجي، نتساءل، كيف يتحقق هذا الاستدعاء وهذا الطلب دون تحقق كلامِي؟.

    يقودنا هذا الفضول، إلى استنطاقِ العنوانِ وبحثِهِ. فيبدو هذا النداءُ خَفِيّا، مُضمرا، جوَّانيا، أٌقرَبَ إلى الهمسِ، وإلى البوحِ والنجوى... إنه نِداء شاعِريٌّ، وِجداني، يتأرجحُ بينَ بينَ ذاتٍ حالمةٍ عاشِقةٍ، تتوارى في هَذيانٍ شاعريٍّ خافتٍ يأخُذُ سماويَّتُه مِن زُرقة الغِلافِ، ويستَعيرُ صهوةَ اللغةِ للتحليقِ عبرَ مُغامرة الإبداعِ والبوح.

    يَحفَلُ الديوان بموضوعات العاطِفة والحُبِّ والعشق، تِلك الجمرة التي يُحميها نسيمُ العِشقِ، ويُذكيها الصّدقُ. لَكن الشاعرَ -على خِلاف ما تعودنا عليه في الشعر- لا يَرسمُ طيفَهُ الأسطوري، أو امرأتَه الخيالية، فيرصعها شَوقاً وصبابةً. بل يُوجه سيل الحبِّ إلى القريبين على دُنُوٍّ من الزمان والمكان. يقول في قصيدة "أناديك قبل الكلام" ص: 35 :

أناديك بعد الكلام

يا سرا

لأنك من لجتي: ناي وآي

فلا الظل يشهده،

ولا النشيد ينشده...

    هذا الحبُّ الأبَويُّ غير المشروط، هذا العِشقُ الباذِخُ الأكبرُ.. وهذه المعاني الفياضة التي تجعلُ من الإبنِ "ياسِر" سِرّا مِن لُجةٍ ولحنٍ وآيٍ ونايٍ... فيغدو نبضاً رقيقا في قلبِ الشاعرِ، وحُلما أكبرَ في جناح النسرِ الملكي، يتعالى على التجردِ، والإدراكِ العادي، لأنه عِطرٌ ونجمٌ وأملٌ.. وصدى في الذات الشاعرة، التي تتقاذفها الأمواجُ والشوارعُ، فيؤولُ النداءُ إلى البوحِ والتشظي قبلَ الكلام.

   ولأنّ خِطاب الشعر، خطابٌ غير عاديٍ، واللغةُ الشعريةُ، لُغةٌ غَيرُ مألوفةٍ، كذلك هو الحبُّ في الشعرِ، عاطِفةٌ غير مُحسوسةٍ، تجعلُ الشاعرَ مُمتنا لذكرى الميلاد، و"هاجرُ" الحبيبة تكبُرُ، فتوقِّعُ على الخدود بسمةً مِن جوى، فيحق إذن للشاعر أن يُنصبَ نفسهُ_ على بُعدِ الحدائق_ سيدا للأزهار، مُختالا بدنوه من وردتهِ، يقول في قصيدة "حبيبة فوق العادة" ص: 37:

ها أنتِ أخيرا ..

تجلسين حاملة ورود دمي

كل سنة فرح لا ينام

وحفل يُقام...

أيها الإبراهيم

رد لي بسمة الطفل

حين يخجل الظل من ظلي

فيهمس لزهرتي بالشعر

للأطيار:

أحبك..

    إلى جانِبِ شعرية العاطِفة، يحفلُ الديوان بشِعرية الذات المُتشظية للقضية العربية الفلسطينية، التي أرَّقت شعراء كبار في الشعرية العربية أمثال (محمود درويش، سميح القاسم، نزار قباني...).يقول الشاعر في قصيدة "رُدي السلام" ص:  43 ..

غزة، يا أمي،

موصدة المعبر

والصمت عميق..

وستائر السماء فوسفور

والنار حريق...

رب طلقة

تتنصت للقصيد خلف الباب،

والأرض تكاد تضيق...

   الشاعر وهو يُصور "غزة" مُحاصرةً جريحةً مُطوقةً في صمت عميق، بين دويِّ الطلقات النارية، والأرض تكاد تضيقُ بها، يستلهِم عبر آلية التناص، قصيدة "الغرفة موصدة الباب" لبدر شاكر السياب.

   يستثمِر الشاعرُ أيضا الإشارات الرمزية والأسطوية، المصورة لثنائية الموت والانبعاث، التي كلما اشتد فيها الألمُ لاحَ في الأفقِ بصيصٌ من الأملِ. وذلك عبر إيراد أسطورة طائر"الفينيق" التي ترمز إلى التجدد والانبعاث ، وهو طائر أسطوري كلما أحس قرب أجله، أنشأ محرقة يحترق فيها لينبعثَ من رماده فينيق آخر، يقول الشاعر، ص:   50:

يا سندباد أيقظ لنا فينيق...

أو مت وأنت تهب قامتك للحمام،

وتمتع بشميم عرار الصمت،

فما بعد العشية من كلام،

وقل لغزة

_وغزة في جفن الردى_

والردى عامر:

ردي

ردي السلام..

ردي السلام..

    في خِضم هذا، تُزَعزِعُ الذات الشاعرة بَعضُ الخيباتِ التي تتفقدها دونَ إذنٍ أو سابقِ إنذار. سيما عندما يكونُ الفقدُ على دُنوٍّ من الذات الشاعرة المُرهفة، فتلتَحفُ القصيدةُ دموعَها، وتتبدى شهوتَها الهشة، يقول الشاعر في قصيدة "هذا جناه الحب علي" ص: 108:

لما صب على إبراهيم الروع

اغرورقت القصيدة بالدموع،

وتفتقت شهوتها

عن مواويل الحزن والذكرى:

النساء يوزعن البكاء

والأطفال تنسج نحيب المُكاء

والنهر متسع لروايات أخرى..

" أحبِبْ من شئتَ فإنك مُفارقه"، لا يغدو أمام المرءِ أحيانا من خيار سوى الذكرى، ولأن ذكرى الفقد حُبلى بأسئلة القلق والانشطار، لا يملك الشاعر إلا أن يسرُد تفاصيل الوصالِ بالأمسِ القريبِ، يقول : ص: 113 ...

هنا..

كنا نحتسي نخب محبتنا

هناك..

كنا نوزع على الأحباب

فائض دمنا

هنا ..

كنا نرتب أشاش أشجارنا

هناك..

كنا نحلم بفروسة بدوية بين أحضان الفراشات.

   إن ديوان "أناديك قبل الكلام"، تجربة إبداعية معاصِرة متميزة تحتفي بشعرية الذات العاشِقة والآملَة في انتِشال الابتسامة من الثغور المتجهمة.  واحتفاءٌ بعاطفة وانسيابية واقعية ذاتية غير مألوفة، تنهل من بعض التجارب الشعرية العربية المعاصرة، وتكشف عن ممارسة إبداعية متميزة، تتدرج في تجريب الأشكال الشعرية، وتفتح اللغة الفنية على الذاتوية القلقة بالأسئلة والرؤى اللامنتهية.

 

 

 

                                                                                                                                                           عبدالحق  وفاق

 


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق