لم يَعُد الحديثُ -في الظرفية الراهِنة- عن التكنولوجيا وباقي وسائط الرّقميات مُقتَصِرا على الانبِهار بتقنياتها، وقدراتها الهائلة في البَحث والتصنيف والأرشفة والتنظيم، أو باعتبارها أداةً جديدة ألغَت أدوارَ العَقل والذاكرة وقَلَّصَت من مهارات الإنسان. وإنما أصبح يَقُود إلى الغَوصِ في قضاياها المُستجدة والرّاهنة، التي غدت في حاجة قُصوى إلى النقاش الجادّ والمسؤول.
إن انخراط
الفئات الواسِعة من شرائح المجتمعات في العالَم الرّقمي، والإقبال الأوسَع على
العَوالِم الافتراضِية، والمِنصَّات الرَّقمِية التفاعلية، بَات يطرحُ السؤال
بِحِدّة حول "الحاجة إلى تربية رقمية"، سِيَما وأن المُجتمع المُعاصِر،
لا يكاد يعرف اليومَ حدودا بين العالَم الواقعي والعالم الافتراضِي، وذلك لِما
أتاحه هذا الأخِير من إمكاناتٍ لا مَحدودة في التفاعُلِ والتواصُلِ والتعبيرِ عن
وجهات النّظر ومُشاركة الآخرين المهارات والخِبرات والانتاجات الأدبية والفكرية
والاقتصادية وغيرها.
ولعل ما
نَسمَعُه اليوم من مَفاهيمَ ومُسمَّيات جديدة تتصل بالعالم الرقمي، يجعل التفكير
في "التربية الرقمية" أمرا ضَروريا ومُستعجَلا، لأنها وحدها الكفيلة
بالتأسِيس لمُواطَنة رقمية ناجِعةٍ، تجعل الأفراد في مَأمنٍ مِن "الجريمة
الإلكترونية" و"العنف الرقمي" و"السرقات الرقمية"...
وغيرها من التجاوزات الأخرى، التي قد يُصبِح الأفراد بِصورة أو بأخرى طَرفا في هذه
الخروقات التي قد تُدين أصحابَها أخلاقيا واجتماعيا وقانونيا أيضا. وإنه لَمِن
الغَرابة والعَجَب أن نَظن أننا في غِنى عما أسميناه بالجريمة الإلكترونية أو
العنف الرقمي، ولكن باستحضارنا للمجتمع الرقمي، والهوية الرقمية، والخبرة التقنية،
والأمن المعلوماتي... يتأكد لنا بالملموس أننا أمام مؤسسات اجتماعية وقانونية
وأخلاقية ننخرطُ فيها بِنَقرة فأرةٍ أو لَمْسَة شاشةٍ لا غير، وهو ما يتطلب يقظَةً
رقميةً وتربيةً على الاستعمال الأنجعِ والمُعقلن لكل وسائط التكنولوجيا الحديثة
ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تُوفِّر اليوم كَمًّا من الدردشة والتفاعل عبر
وسائط الصّوت والصّورة والفيديو وغير ذلك...
إن العالَم
الرّقمي في الظرفية الراهِنة، يعرِفُ تَسارُعا كبيرا في تطويرِ وتحديثِ أدواته
وبرمَجياتِه، التي أصبحت تُعوِّض العقل البَشري في كثيرٍ من أدواره، بل الأكثر من
ذلك أصبَحتْ تؤسِّس لقواعدَ وسلوكات رقمية جديدة، لها من القوة والثبات
والمشروعية، كتلك التي تحكمنا في العالم الاجتماعي الواقعي الذي يربط بعضنا ببعض.
لكن إذا كانت هذا العالم الواقعي يُحتِّم علينا تربيةً اجتماعيةً تضبِط علاقاتنا
وتهذِّب سلوكاتنا، فالعالم الرّقمي هو الآخر، يُحتِّمُ علينا تربيةً رقمية،
تمكنُنا من مُسايرة هذا الرّكب التكنولوجي السريع بقيم رقمية جديدة، يميزها
التفاعل الخَلاّق والمشاركة الإيجابية والأمانة المعلوماتية.
باتَ
بإمكاننا إذن، أن نطرح السؤال جَهرا، لماذا الحاجة إلى تربية رقمية؟
إن التربية
على الاستعمال الأمثلِ لوسائط الرقميات الجديدة أمرٌ ضروريٌّ، وسلوك إيجابي ومسؤول
لمُسايرة التحدي التكنولوجي والرقمي الراهن. خاصة وأن هناك فروقات اجتماعية كبيرة
بين المُجتمعات المُنتِجة والأخرى المُستهلِكة لهذه الرقميات، لذا وجبَ أن تعْملَ
المجتمعات _كل من موقعها- جاهدةً على الحرصِ على خصوصياتها الفكرية والثقافية
ومرجعياتها الدينية أيضا أمام هذ المَدِّ الرقمي الجارف. إضافة لذلك، التربية
الرقمية سلوكٌ لضبط عمليات الانفتاح الثقافي، وجعل التكنولوجيا وسيلة للحياة فقط
لا الحياة كلها.
إرسال تعليق