"توماس سْتيرنز إِليوت" في الشِّعريّة العَربية؛ القَصْدُ إلى حَداثة المُثاقَفة
الدكتور عبدالحق وفاق – شاعر وناقد أدبي (المغرب)
لا تنفَصِل دراسة الشعر العربي الحديث عن المؤثرات الأجنبية التي تفاعل معها والتي تركت بصمتها في الكثير من تجاربه، إذ تُعد تجربة إليوت الشعرية أسَاساً ألهم الحداثة الشعرية العربية وأثَّر في كثيرين من شعرائها، خاصة مع حَركة الترجمة إلى العربية، التي تزعَّمها نُقاد وشعراء عَرب أسهموا في مدّ الجُسور بين الثقافتين.
منذُ الأربعينيات من القرن العشرين بدأ اسم
"إليوت" يتردد بشكل ملحوظ في العديد من ملاحق الصحف العربية
والمجلات الأدبية، نذكر منها: (مجلة الفجر الأدبي، الثقافة، المجلة الجديدة،
الكاتب المصري، مجلة فصول...). وقد حظيت قصيدته "الأرض اليباب" (The Waste Land) (1922)
التّي أَلف مُعظم أبياتها أثناء سفره للعلاج بمدينة لوزان السويسرية، بدراسات
وقراءات لا حصر لها من قبل المترجمين والأدباء والكتاب العرب، الذين استقبلوا
الإنتاج الشعري لإليوت في النسق العربي الحديث استقبالا يكشِف انبهارهم بتجربته
الشعرية المائزة.
يُسمي مصطفى بدوي هذا الاتصال الثقافي
الشّعري بـ"المثاقفة الإليوتية القصدية"، يقول: فقد انكب الشعراء على
دراسة إليوت نهاية الأربعينيات والخمسينيات، عندما كان قد بدأ يلوح قديما Old-fashioned حلت
محله أعمال جيل أودن وفيليب لاركن[1]. بل إن الإثارة التي كان ينطوي
عليها اكتشاف العديد من الشعراء والنقاد العرب، في فترة الخمسينيات، لشعر إليوت
بدت للقارئ المُطلع على حد تعبير المصدر نفسه: "تتسم بشيء من
السذاجة وضيق الأفق". ولعل ما يقصده مصطفى بدوي، هو التبعية الثقافية ذات
الإيقاعات الموازية للتبعية الاستهلاكية.
ولعل المثاقفة بين الشعرين العربي الحديث
والإنجليزي الحديث، تزامنت مع حركة الحداثة الشعرية التي كان من أبرز خصائصها التي
شهدتها فترة الخمسينات، على حد تعبير سلمى الخضراء الجيوسي: "تحلل افتراضات
تعود إلى عهود مضت، تتعلق بالشكل والأداء الشعري والمواقف التقليدية في الشعر
العربي الحديث، لاجتياز حدود القيود المحلية والقومية نحو الفضاء العالمي
للفن"[2]. خاصة أمام ما منحته التجربة
الشعرية الحديثة من نظرة للشاعر، جعلته يرى أن اللجوء إلى السطر الشعري ذي
التفعلية، بدل البيت الشعري القديم ذي البحر الشعري، ضرورة اجتماعية مرتبطة
بالتحول الذي عرفته المرحلة.
ينضاف إلى هذا العامل الباعث على
هذه المثاقفة عوامل أخرى، تتجاوز ما هو سياسي واجتماعي إلى ما هو قومي حداثي
وثقافي فني، كان له الوقع الأساس في التغيرات الفنية والأسلوبية التي وَسمت
التجربة الشعرية الحديثة.
ففي 16 يونيو 1945 نشرت مجلة "الفجر
الجديد" مقالا بعنوان "الأرض الخراب" لنور شريف تقول فيه: "
يتزعم ت.س.إليوت جماعة من الأدباء الإنجليز تركت أثرا فعالا في الأدب الإنجليزي،
وخاصة في عشرينياته. وكان من هذه الجماعة باوند وجيمس جويس ولورنس وفيرجينيا وولف.
وتحدثت نور شريف عن المدارس الشعرية في الأدب الإنجليزي، وتناولت قصيدة
"الأرض الخراب" فقالت إن إليوت صور فيها انحلال النظام
الاقتصادي والاجتماعي، وتأثير هذا الانحلال في من يعيش في ظله. وكانت "الأرض
الخراب" أول محاولة جديدة في الشعر لبسط حقيقة العالم الصناعي وما لازمه من
قذارة ومن فقر، إلى غيرهما من الحقائق التي ظلت بعيدة عن الشعر الانجليزي منذ
العصر الفيكتوري. ولكن إليوت بمواجهة المجتمع الصناعي المنحل، واكتشاف تفاهة مثله
الآلية، صدم هو الآخر صدمة ارتد على إثرها إلى عالم الماضي والكنيسة
الأنكلوسكسونية"[3]
وفي يناير 1946 نشرت مجلة "الكاتب
المصري" الشهرية مقالا مطولا لِـ لويس عوض، يعرض فيه لظهور إليوت وقصيدته
"أغنية العاشق بروفروك" التي عدّها أهم شعره، فضلا عن كونها لفتت إليه
الأنظار، ويربط الكاتب القصيدة بالشعر الإنجليزي فيما بين الحربين، ويعرض لغموض
هذا الشعر وأسباب ذلك الغموض. ثم يتحدث عن استيحاء الميثولوجيا اليونانية
والرومانية، وتأثر إليوت بالتراث المسيحي وكوميديا دانتي. ويعد الكاتب قصيدة
"الأرض الخراب" بمثابة ملتقى ثقافات شرقية وغربية، قديمة وحديثة، وثنية
ومسيحية. ويعرج على تأثر إليوت بتجاربه الشخصية، وانسحابه منهزما أمام القوى
الحضارية الجديدة التي تسحق الفردية سحقا. ويعُده إليوت نقطة تحول في تاريخ الشعر
الإنجليزي"[4]
وعلى الرغم من الأثر الذي تركه إليوت في
التجربة الشعرية العربية الحديثة، إلا أن المحاولات الشعرية التي استوعبته كانت
معدودة، بحيث إن كثيرا من هذه المحاولات نظرت إلى إليوت باعتباره غاية لم تستطع
تمثلها. فقبل أعوام كانت مجلة فصول قد نشرت بحثا بعنوان "ت.س.إليوت في الأدب
العربي" بقلم ماهر فريد. وفيه قدم عرضا موجزا لما استطاع أن يصل إليه
من مادة أدبية كتبت أو ترجمت إلى العربية عن إليوت أو تأثرت به.
استهل ماهر فريد بحثه بالقول: "طراد
الإوزة البرية تعبير في اللغة الإنجليزية يراد به كل سعي عقيم لا يبلغ هدفه، ولا
يتمخض إلا عن إصابة صاحبه بالإحباط، ورجوعه صفر اليدين. والطراد الذي نعنيه هنا هو
محاولة شعرائنا ونقادنا العرب الكتابة والإبداع تفاعلا مع الأداء الإليوتي. وهي
محاولات لم تؤت –باستثناء حالات قليلة تعد على أصابع اليدين- من ثمرة غير ابتلاء
شعرهم بالتكلف والحذلقة والإدعاء، وصرفهم عن واقعم المعيش. والقلة القليلة التي
نجحت في استلهامه حققت ذلك في مواضيع قليلة وليس في كل إنتاجها، مثل لويس عوض،
وبدر شاكر السياب، وصلاح عبدالصبور"[5]
وكان جبرا إبراهيم جبرا قد نشر بحثا باللغة
الإنجليزية قبل ماهر فريد بعنوان "الأدب العربي الحديث والغرب" سنة
1968م، يقول: "إن إليوت قد سَحَر الكتاب العرب المحدثين بأفكاره الريادية
التي طابقت ما في نفوسهم من أفكار وهوى، وكأن إليوت أصبح الناطق باسم الحداثة
عندهم. وقد جذبتهم إليه بشكل خاص مقالته الشهيرة "التراث والموهبة الفردية"
التي يدعو فيها إلى الاهتمام بالموروث وتجديده وبعث الحياة فيه مجددا
من خلال الموهبة الفردية للشاعر، في مسعى تصبح فيه قيمة ذلك الموروث جديدة متجددة
وصامدة في وجه الزمن. ومَنْ مِن الكتاب العرب لم تخامره فكرة التجديد في الموروث
وتحديث التراث الأدبي العربي، خصوصا الشعري منه"[6]
فعلى إثر توازي معاناة الشعراء العرب
الحداثيين بعد نكبة فلسطين والتحولات الكبرى التي بدأ يشهدها العالم العربي، ثَمَّ
استلهام تجربة إليوت المأساوية في قصيدته "الأرض اليباب" (The Waste Land) عقب
تداعيات الحرب العالمية الأولى، التي وجد فيها الشعراء العرب الحداثيون منهلا
ينهلون من الأساطير الموظفة فيه، لانتظار الغيث واستعادة الحياة لأرضهم التي أصبحت
"يَبَاباً" كأرض إليوت، وذلك عبر استدعاء مجموعة من الأساطير والإشارات
الدالة على الخصب والنماء والولادة والموت والانبعاث.
ولعل العمق الذي تضمنته الأساطير الموظفة في
"الأرض اليباب" كـأسطورة فليبوس الفينيقي وأسطورة تموز والملك الصياد
وغيرها من الأساطير الأخرى، التي وجدت صداها في الأعمال الشعرية للشعراء العرب
الحداثيين في التعبير عن تجاربهم الشعرية من جهة، ولتقريب أرض إليوت (اليباب) من
إنتاجاتهم من جهة ثانية، بالرغم من العمق الدلالي واللغوي والتصويري الكبير الذي
جعل من قصائد إليوت تجربة مُتمنِّعة ومستعصية، نظرا لنزعة إليوت الفلسفية وعمق
ثقافته وتشعب تكوينه.
يقول محمد شاهين: "ونحن نعلم كذلك أن
إليوت كان أول من نادى بإحياء تراث الشعراء الميتافيزيقيين، وساهم في تقديمهم من
جديد إلى القارئ المعاصر، كما أحب الدراما الإيليزابيثية. هذه إذن شاعرية إليوت في
كلمات: فلسفية، رمزية، ميتافيزيقية، درامية. ولهذا كله لم يصل إلينا إليوت سهلا
متمنعا، وإنما بدا لنا سهلا خادعا. فعباراته الشعرية التي تبدو لنا وكأنها حديث
يومي عابر ما هي إلا ظاهر لغوي يخفي وراءه عمقا لغويا آخر غير مكتوب ولا منطوق.
وبعبارة موجزة، شكلت لغة إليوت الشعرية لغة داخل لغة، أو لغة خارج لغة، كما يقال
أحيانا عن الشعر التصويري الذي تحل فيه الصورة محل الكلمة المجردة" [7]
يمثل إذن، تفاعل الشعر العربي الحديث مع
المنجز الشعري الإليوتي جزءا مركزيا من عملية "مثاقفة" بين الشعر العربي
الحديث والشعر الإنجليزي، إلى درجة أن القول بفكرة تأثير إليوت في الشعر العربي
الحديث، أصبح مسلما به لدى الباحثين والنقاد المعاصرين. إذ نجد النفَس الإليوتي،
والرؤية الإليوتية المتسمة بالقلق واللاستقرار واللاثبات، والتوغل في تخوم
المرجعيات الشعرية والفكرية والثقافية والإنسانية بمعناها الشمولي الفرداني، حاضرة
في تجارب العديد من الشعراء الحداثيين، أمثال السياب والبياتي والملائكة وأدونيس
وعبدالصبور والخال وحاوي... وغيرهم.
هوامش:
[1] Mostafa
Badawi, A Critical Introduction to Modern Arabic Poerty ;
Combridge ;1975 , PP.263.
[2] Salma
khadra jayyusi, trends and movements in modern arabic- Poetry, Leiden,
1977 ;PP.749
[3] علي شلش، ت.س. إاليوت في المجلات الأدبية
(1939_1956) مجلة النقد الأدبي "فصول"، الجزء الثاني
"الأدب المقارن"، المجلد الثالث، العدد الرابع، 1983، ص:313.
[4] نفسه، ص: 313.
[5] جبرا إبراهيم جبرا، الأدب العربي الحديث والغرب، مجلة
فصول، يوليو 1981، ص: 173.
[6] Issa Boullata ,Modern Arabic
Litteraure " in critical Perspectives on Modern Arabic
Literature ; Washington : Three Continents Press, 1980 ,
P : 13.
[7] محمد شاهين، ت.س.إليوت...وأثره في الشعر العربي
"السياب-صلاح عبدالصبور-محمود درويش"، دراسة مقارنة، آفاق للنشر
والتوزيع، الطبعة الأولى، 2007 ، ص: 14.
إرسال تعليق