إن التطور والتحول الأدبي للدراسات الأدبية والنقدية التقليدية، جعل هذه الأخيرة تنتقل إلى مجال أوسع من الدراسات، وهي الدراسات عَبر الحضارية، التي تحاول أن تعيد المنتوج الأدبي إلى سياقاته الحضارية والتاريخية، ومن تمة الثقافية التي تتماهى فيها الهويات والثقافات، ويصير النص الأدبي نتيجة لهذه السياقات وأثرا من آثارها.
وقد أتاح
هذا التطور في الدراسات الأدبية الفرصة للحديث عن مفهوم المثاقفة Acculturataion كمفهوم يمثل أحد نتاجات هذه الدراسات
عبر الحضارية، التي تعد رافدا من روافد العولمة وتجليا من تجلياتها، باعتبارها
حصيلة التفاعلات التي تحدث نتيجة شكل من أشكال الاتصال بين الثقافات المختلفة،
كالتأثير والتأثر والتفاعل والاستيراد والحوار... وغير ذلك مما يؤدي إلى ظهور
عناصر جديدة للتفاعل، وطريقة التفكير وتحليل الاشكالات والقضايا.
وتعد
المثاقفة من المُفردات التي تعبر عن أوجه التبادل الثقافي بين الحضارات البشرية
المتعددة. والمثاقفة بالإضافة إلى كونها اكتساب ثقافة مغايرة للثقافة الأصلية
للفرد والجماعة، 1 هي اتجاه يسعى أن يكون وسطا بين
الانفتاح المطلق الذي يؤول إلى الانصهار في ثقافة الآخر، وبين الانغلاق المطلق
الذي يؤول إلى الانعزال تماما عن الآخر. وبهذا المعنى تعد المثاقفة رافدا مهما
تسعى كل أمة من خلاله إلى معرفة الآخر واستثمار ما لديه من قيم ومعطيات إنسانية
وحضارية وثقافية، وتنمية الكيان الثقافي دون إلحاق الضرر بالهوية وثوابتها. ومن
تمة فالمثاقفة ليست اختيارا، بل هي استحقاق وفضاء ما بَينِي لتعايش الهويات
المحلية.
وإذا
توخينا التمييز بين الثقافة لدى الفرد والمثاقفة لدى مجموعة، نجد أن الدلالة
الثانية هي الأكثر شيوعا في الإشارة إلى عملية المثاقفة كعملية عبر حضارية سواء
لدى الفرد أو الجماعة. والبحث في أصل المثاقفة يعود بنا إلى أقلام الأنثربولوجيين
الأمريكيين في حدود 1880م، وكان الإنجليز يستعملون بدلا عنه مصطلح التداخل
الثقافي Culturation
exchanging وفضل
الفرنسيون مفهوم تداخل الحضارات. إلا أن مصطلح المثاقفة أصبح أكثر تداولا
وانتشارا.
وقد كثرت
الآراء والمفاهيم التي توضح المقصود بالمثاقفة، فمنهم من يرى: أنها
عملية التغيير أو التطور الثقافي الذي يطرأ حين تدخل جماعة من الناس أو الشعوب
بأكملها تنتمي إلى ثقافتين مختلفتين، في اتصال أو تفاعل يترتب عليهما حدوث تغيرات
في الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في تلك الجماعات، وهذا التعريف قد اتفق عليه
مجموعة من العلماء والباحثين، منهم (ميلفن، هرسكر، فيتز، رالف لينتون، روبرت
ردفيليد)2.
هناك
من يَرى أن المثاقفة تعني التواصل بين الأمم والثقافات والشعوب، وهو ما اصطلح عليه
في العديد من الكتابات الفكرية بالأنثربولوجيا. وحتى وقت قريب اندرج مفهوم
الاستشراق ضمن مفهوم المثاقفة ليفيد تأثير ثقافة قوية على ثقافة ضعيفة، كما هو
الحال في الثقافة الغربية الاستعمارية في بلدان الشمال، على الثقافات القومية
والوطنية المحلية في بلدان الجنوب.
والوقوف عند
مفهوم المثاقفة، يتطلب الوقوف بإزاء قيمتين متضاربتين، مفهوم يؤكد هيمنة ثقافة على
أخرى، وهو جوهر الخطاب الكولونيالي وما بعده. وأوضحه بجلاء إدوارد سعيد في كتابيه
"الاستشراق" و"الثقافة الامبريالية"، وهما عمليتا نقد للتبعية
الثقافية من افتضاح تداخل الاستشراق في مفهوم المثاقفة، نحو استرداد
الهوية ومواجهة الاستعمار الثقافي، أو الغزو الثقافي، حيث يرى هذا المفهوم أن السلطة
الثقافية هي الأبرز في ميدان المثاقفة الحضارية إثر هيمنة الخطاب ما بعد
الكولونيالي، الذي يضاعف تبعات الاستتباع والاستقطاب والهيمنة في
التغطية على الخصوصيات الثقافية وعناصر الهوية القومية.
أما المفهوم
الآخر للمثاقفة، فيرى أنها إثراء لمحتويات ثقافة لتلقيح ثقافة أخرى، حيث إن النص
القوي المميز يخلق حقيقته بالضرورة، ويفرض نفسه. أما المفهوم الأورو-أمريكي
للمثاقفة، فلا يعني أبعد من الانصياع لثقافة الاستعباد، إذ أن جل همها
الانتصار للمركزية الغربية، حيث يتبنى هذا المفهوم مقولات بعينها منها: تحضير المتوحش،
ومؤاخاة المتخلف وغيرها من المقولات ذات الطابع الاستعماري الايديولوجي الذي يكرس
للمفارقات الاستعمارية والمركزيات الغربية.
1 جمال التلاوي، المثاقفة: عبدالصبور
وإليوت ...دراسة عبر حضارية، ترجمة ماهر مهدي وحنان الشريف، ص:7.
2 نصر محمد عارف، الحضارة، الثقافة،
المدينة (دراسة لمسيرة المصطلح ودلالة المفهوم) ، ص:24.
إرسال تعليق