U3F1ZWV6ZTQ4NTIyNzU1MDcxNzM5X0ZyZWUzMDYxMjM0OTcwMzc1MQ==
اِبحث داخل الموقع !

قصة قصيرة... دراهم الحافلة – عبدالحق وفاق



قصة قصيرة... دراهم الحافلة – عبدالحق وفاق




        أطلّ صُبح يَومٍ بدوي جَدِيد، افتتحَ "مُبَارَك" يَومَهُ الرَّتِيب، أخذَ آنِيةَ المَاءِ إلى عَتَبة البَيْتِ الخَارِجي، مَسَحَ على وجهِه، وَخَلّل شَعْرَه الأشْيَبَ، رَتّبَ على جِسمِه النّحِيل ثِيابَه البَالِيةَ المُعلّقَة على البابِ الداخلي. بَسطَ جلبابَه الصّوفِي على زاويَة من أرضِيةِ البيتِ، وأخَذَ يُتَمتِم في صَلاتِه بِصَوتٍ خافتٍ أقرب إلى النَّجوى، أعادَ جِلبابَه إلى مِسمَار البابِ. جَلسَ الأربُعاء وهو يَغمِسُ كِسْرة الخُبز في صَحنِ صَغِير صُبَّ فيه القليل من زيت الزيتون وبَعضَ الزُّبدة، ارتَشَفَ بِقَليلٍ من السّرعَة كأس القهوة التي أعدّت زوجَتهُ "رَاجِيّة" قبل أن تَعود إلى احتواءِ صَغيرَيْها في الفِراش. رَتّبَ أدواتَه في حقيبَةِ الثَّوب المُرقّعة، وَغَرسَ جسمَه الهزيلَ في الجِلباب. دون أن يَنسى إخبار "راجية" أنه قد تَركَ لها الدراهم المعدودات على الصّندوق الخشبِي، قبْل أن يَهُمَّ بِقطع نَحْوِ كيلومتر ونصف مُترجِّلا إلى المَدينة البائِسة التي تُصَارع ساكنتها الصباحَ لموعِد الحافلةِ الوحيدةِ التي تُقِلُّهم إلى ضاحيةِ المدينة حيثُ مَعمَلُ تَجميعِ أزهار البُرتقال.

      وَصَلَ "مبارك" إلى مَحطّة الحافلة بعدَ أزيَد من نِصف ساعة قَضاها في الطّريق يفَكِّرُ في شِراء دراجّة هوائِية، تُعفِيهِ دراهم الحافِلة والانتظار الطويل. وَقَفَ حريصا على مكانه حتى يحظى بِكرسِي بارِد في الحافلة المُنتظرة. توقَّفَت دونَ أن يهدأ صوتُ المُحرّك، فتسارعَ الحَشدُ للصّعود، قُدِفَ خارجَ الحَشدِ بَعد أن حاولَ أن يكون من الراكبين الأوائل، انتظَرَ بُرهَة فَصَعدَ، أدخَل يَده في جَيبِه يَهُمّ بإخراج الدراهِم الأربعة ليحصُل على ورَقة الصُعود، فأخرجَها فارِغة –مُتجَهّما- بَعد أن تذَكّر أنه تَركها بِجَيب سِروال آخر. لمْ يُفلِح في استعطاف المُراقِب الأسمر ذو الشارِبِ الطويلِ. فعاد أدراجَه –مُحبطا- إلى الرصيف الفارِغِ من الحَشْدِ، وهو يرُقبُ الحافِلة تنطَلِق مُخَلفةً أعمدة من الدخان والغُبار .

       جَلسَ إلى السّورِ القصيرِ الأقرَبِ من الرّصيف، اقتربَ مِنهُ شابٌّ على كُرسِيٍّ مُتحَركٌ، عُلِقت بِجنباتِه أكياس من البلاستيك، تحوِي خُبزا وماء وأطِعمة أخرى. مَدَّ يَده إليهِ بِبُطءٍ ، فأشار له "مُبارك" أن لا دِرهَمَ مَعَهُ، لَكِن الشابَّ الأسْمَر المُقعَدَ على الكُرسي تَمتَم إليه بِكلماتٍ غير مَفهومة، مُحرّكا يَده اليُمنى أن يأخذَ مِنه _خَمسة دراهِمَ _وَهُو يتطَلّعُ إلى وجههِ بابتِسامة غَريبة.

       مَدَّ "مُبارك" يَدَه يَأخذ الدراهم، فقاطَعَه صوتٌ غَليظٌ مِن سائق سيارةِ عُمَّالٍ: إلى مَعمَل البرتقال يا رَجُل؟. أشار بِيَدِه إلى صاحِب السيارة. وأدخل يَدَه في حقيبتِه فأخرج كِسرَة خُبزٍ وعُلبَة من السّمك المُصَبّر، دَسَّهما بِشُكرٍ في الكيسِ البلاستيكي للكُرسي. وصَعِد السّيارة في الخَلفِ مع العُمّالِ الثلاثة الذين يقطعون الشّوطَ الأخير مِن نومةٍ خفيفة.  دَوَّى المُحرّك، فَلوّحَ "مبارك" بِيَدِهِ إلى الشابِّ، وهو يَنبِسُ بكلماتِ شُكرٍ للتَّضامُن.

مجلة العربي، الكويت، العدد 729 أغسطس 2019، ص: 200، المرتبة الثالثة في مسابقة "قصص على الهواء"

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق